محمد عبد الجبار الشبوط طرحتُ مؤخرًا سؤالًا بسيطًا في مضمونه، عميقًا في دلالاته، على قراء صفحتي: أيهما تفضّل: إلغاء الدستور الحالي وتشكيل حكومة طوارئ بلا أساس دستوري؟ العمل بالدستور الحالي لحين تشريع دستور جديد؟ جاءت أغلبية الأجوبة مؤيدة للخيار الثاني، فيما اختار البعض الخيار الأول. وفي ضوء هذه النتائج، أجد من المفيد إجراء قراءة تحليلية هادئة للخياريْن، مع الوقوف على دلالات هذا الانقسام في الرأي العام، لما يحمله من مؤشرات سياسية ومجتمعية بالغة الأهمية. أولًا: الخيار الأول – حكومة طوارئ بلا أساس دستوري ينطوي هذا الخيار على قطيعة جذرية مع النظام السياسي القائم، بما في ذلك إلغاء الدستور وتعليق المؤسسات القائمة، وتشكيل حكومة مؤقتة تتولى إدارة البلاد خارج الإطار القانوني الحالي. إيجابياته المحتملة: التحرر من قيود دستور يراه البعض سببًا رئيسيًا في الفشل السياسي والفساد. تجاوز النخب المحاصصة التي استفادت من نظام المحاصصة الراسخ. إمكانية اتخاذ قرارات حاسمة وجريئة دون معوقات تشريعية أو سياسية. لكن بالمقابل، يحمل هذا الخيار مخاطر جمّة: غياب أي أساس شرعي أو قانوني قد يدخل البلاد في حالة فراغ دستوري وفوضى عامة. إمكانية انزلاقه إلى حكم استبدادي تحت مسمى “الطوارئ”. انقسام سياسي واجتماعي حاد قد يؤدي إلى انهيار السلم الأهلي، وربما تدخلات خارجية. ثانيًا: الخيار الثاني – التدرج من داخل الدستور القائم أما هذا الخيار، فيدعو إلى الاستمرار بالعمل بالدستور الحالي بوصفه الإطار القانوني الوحيد القائم، على أن يتم الشروع تدريجيًا بتشريع دستور جديد يعكس طموحات الناس وتطلعاتهم إلى دولة عادلة وكفوءة. إيجابيات هذا المسار: الحفاظ على الاستقرار القانوني والدستوري. تجنب الفوضى أو الانهيار المؤسسي. تقديم نموذج إصلاحي متدرج، يمكن أن يكتسب شرعية سياسية داخلية وخارجية. ولكن له أيضًا تحدياته: احتمال أن يؤدي إلى إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها. طول أمد الإصلاح بسبب تعقيدات النصوص والإجراءات. ضعف الثقة الشعبية بالمؤسسات القائمة، ما يضعف حماسة الناس للمشاركة. دلالات نتائج الاستطلاع اللافت أن الأغلبية أيّدت الخيار الثاني، وهو ما يعكس –في تقديري– وعيًا متزايدًا لدى قطاعات واسعة من المواطنين بضرورة التمسك بمسار التغيير المنظم، لا الفوضوي، وبأن تجاوز الأزمة لا يتحقق بالقفز على القانون، بل بإصلاحه أو تغييره تدريجيًا. في المقابل، فإن تأييد الأقلية للخيار الأول يعكس حالة يأس وغضب من الواقع السياسي الراهن، وربما فقدان الثقة تمامًا بإمكانية الإصلاح من داخل النظام، ما يدفعهم إلى تفضيل “القطيعة الكاملة”، ولو بثمن باهظ. أي طريق نسلك؟ المفارقة أن كِلا الخيارين ينطلق من الرغبة في التغيير، ولكن السؤال الجوهري هو: كيف نغيّر دون أن ننهار؟ وهنا يبرز الحل الحضاري، الذي يجمع بين: وضوح الرؤية نحو دستور جديد عادل وفاعل. احترام النظام القانوني إلى أن يتم تغييره بأدواته نفسها. تقوية الوعي الشعبي ومشاركة الجماهير في صنع التغيير. التحول الحقيقي يبدأ حين نجعل من إرادة الناس مصدرًا للشرعية، ومن القيم العليا أساسًا لبناء الدولة، لا مجرد أدوات للتنازع على السلطة. خاتمة نحن أمام خيارين: الثورة أو الإصلاح، الطوارئ أو الدستور، الفوضى أو التدرج. وليس المطلوب فقط أن نختار أحدهما، بل أن نبني طريقًا ثالثًا يجمع بين الحسم والاستقرار، بين الإرادة الشعبية والإطار الدستوري، بين الحلم والتطبيق. وهذا ممكن، إذا توفّرت الإرادة الجماعية، والرؤية الواضحة، والنخبة المؤمنة بضرورة التغيير الحضاري لا الانقلابي.
|