قاسم الغراوي لم يكن تحذير وزارة الموارد المائية العراقية مجرد تصريح روتيني حين وصفت الوضع المائي الراهن بأنه “أخطر موجة جفاف يمر بها العراق منذ عام 1933”. بل هو إنذار حقيقي يختصر ملامح كارثة بيئية وإنسانية تلوح في الأفق، وتضرب مفاصل الأمن المائي والغذائي والسكاني للعراق، في ظل صمت دولي وتهاون محلي، وانحسار مستمر في الإيرادات المائية القادمة من دول الجوار. أزمة مركّبة تتجاوز الجفاف الطبيعي ليست المشكلة في ندرة الأمطار فقط أو في تعاقب مواسم الشحّ المناخي. فالعراق يعيش ما يمكن وصفه بـ “الاحتباس السياسي المائي” نتيجة تحكّم كل من تركيا وإيران بمنابع وروافد نهري دجلة والفرات، دون الالتزام بأي اتفاقيات ملزمة تضمن حقوق العراق التاريخية والعادلة في مياه النهرين. فتركيا تمضي بسياسة السدود والاحتجاز، كما في مشروع “سد إليسو”، بينما إيران تقطع أو تحوّل مجاري أنهار وروافد حيوية مثل الزاب الصغير والوند ونهر سيروان، وهو ما أدى إلى جفاف كلي أو شبه كلي لعدد كبير من الجداول والأنهار في ديالى وشرق البلاد، وانحسار هائل في مناسيب المياه في مناطق الأهوار جنوبي العراق. النتائج الكارثية بدأت بالفعل بانخفاض الإيرادات المائية بنسبة تفوق 60% مقارنة بالمعدلات السنوية وتم تقلص الخطة الزراعية في عدد كبير من المحافظات، وحرمان آلاف العوائل من مصدر رزقها ، مع نزوح تدريجي من بعض المناطق الريفية نتيجة الجفاف وانعدام المياه الصالحة للزراعة. كذلك تدهور بيئي واسع، خاصة في الأهوار التي تصنّف كمحمية طبيعية عالمية، مهددة بخروجها من لائحة التراث العالمي بسبب الجفاف. سوء الإدارة الداخلية يعمق الجرح: رغم وضوح الخطر، فإن السياسات الداخلية لا تزال تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية لإدارة ملف المياه. فما زال الري بالغمر التقليدي مستمرًا، والهدر في الاستخدام المنزلي والزراعي شائعًا، بينما تغيب مشاريع التحلية، وتفتقر البنى التحتية لتقنيات التدوير والخزن والتقنين. وبينما تعتمد دول كثيرة في المنطقة على سياسات ذكية في التعامل مع شحّ المياه، نجد أن العراق لم يحقق تقدمًا ملموسًا في تطوير تكنولوجيا الزراعة المقتصدة أو في تحلية مياه الخليج، أو حتى في حماية موارده من الهدر والتلوث. |