علي هاشم البهادلي حين ينزل الوحي، لا يهبط كصوتٍ في الفراغ، ولا ككلماتٍ على الورق، بل يأتي كنورٍ يسري في مجرى الدم، وكالماء يلامس ظمأ الأرواح التي أنهكتها الأرض، يأتي الوحي ليعيد تشكيل الإنسان من الداخل، فيهمس للقلوب قبل أن يخاطب العقول، ويوقظ الروح قبل أن يُملي الشرائع. وفي تأملنا لسورتي الكوثر والماعون، لا نتوقف عند عدد الآيات — ثلاثٌ هنا، وسبعٌ هناك — بل نزداد دهشةً من ذلك التوازن الذي أقامته السماء بين العطاء والتحذير، بين النهر والجفاف، بين قلبٍ ممتلئ بالشكر وآخر فارغ من الرحمة. ففي سورة الكوثر، يبدأ الخطاب بلطف سماوي مدهش:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، ليست فقط آيةً للعزاء، بل وعدٌ إلهي بأن الخير لن يُبتَر من بين يديك، وأنك وإن فقدت الذرية في عيون الناس، فقد أُعطيت النهر والنبوة والخلود في عين السماء، إنه الكوثر، رمز العطاء المتدفّق، ليس ماديًا فحسب، بل رساليٌّ ممتد، خطٌّ لا ينقطع من الرحمة والنور. ثم يأتي النداء الثاني: {فصلِّ لربك وانحر}، لا تُطالب بالرد على الأعداء، بل بالصلاة، ولا يُطلب منك أن تجادلهم، بل أن تزداد قربًا من الله، فالصلاة هنا ليست طقسًا، بل شكرًا ناطقًا، والنحر ليس ذبحًا فقط، بل رمزٌ للتجرد من الذات والتقرب إلى مصدر النعمة، أما الخاتمة فهي قاطعة: {إن شانئك هو الأبتر}، المنقطع ليس مَن لا نسل له، بل من لا رسالة له، ليس مَن فقد الابن، بل من فقد الرحمة من حارب النبي (ص)، انقطع من ذِكر الحياة، وبقي محمدٌ (ص) هو الخط الممتد إلى آخر الزمان. ثم ننتقل إلى سورة الماعون، فتنقلب اللغة، ويتغيّر النَّفَس، ويشتد النبرة، هنا لا نجد بشارة، بل تساؤلًا تقريعيًا يبدأ بتعجبٍ يفضح النفاق المستتر: {أرأيت الذي يُكذّب بالدين؟}، إنه لا يُكذّب بالكلام، بل بالفعل حين يدفع اليتيم، ويُهمل المسكين، ويتباهى بالصلاة أمام الناس بينما قلبه غائب، إنه ليس كافرًا معلنًا، بل متديّنٌ بلا ضمير، يعبد المظهر وينسى الجوهر. وتأتي الآية الأخيرة كصفعة أخلاقية: {ويمنعون الماعون}، الماعون؟ تلك الأشياء الصغيرة التي تعني الكثير — إبريق، فأس، عون عابر، نظرة طيبة — إنها مؤشرات الإيمان الحي، فمن يمنعها، يمنع نبض الرحمة عن محيطه، فيكذّب بالدين حتى لو صلّى. وبين الكوثر والماعون، مشهدٌ شعريٌ عظيم، ففي الأولى، النبي هو المتلقي، العطية، الخط المبارك، وفي الثانية، الناس هم المرآة، والفضيحة، والمقياس. واحدةٌ تهمس للنبي: (أنت لست أبتر، بل أنت المنبع)، والأخرى تصرخ في وجه المتدين المزيّف: (ويلٌ لك، إن لم يكن لدينك ظلٌّ على الأرض). إنها رسالة السماء، حين تختصر في سورتين قصيرتين درسًا طويلًا: الدين ليس طقسًا يُؤدى فقط، بل موقفٌ يُعاش، ليس عبادةً مفرغة، بل فعلٌ مشحون بالنية، أن تصلي لله، نعم، لكن أن تُطعم الجائع، وتحنو على اليتيم، وتمنح الماعون، فذلك ما يجعل الصلاة مقبولة. يا قارئ السورتين، أنت بين نهرٍ من عطاء، ووعيدٍ من جفاف، وبين تكريمٍ إلهيٍ لمن صلى وشكر، وتقريعٍ لمن صلّى ونكر، فاختر لنفسك موضعًا يليق بها في صفّ من سُقي بالكوثر، أم في زمرة من مُنعوا حتى من إعارة الإناء؟ |