المحامية شهد العبيدي الدساتير ليست مجرد نصوص مكتوبة بالحبر، بل هي تعاقدات تاريخية تُخطّ بآلام الشعوب، بآمالها وخيباتها، وبدماء من سقطوا وهم يحلمون بوطن يشبههم. لكن الدستور العراقي لعام 2005، رغم كونه أول نص تأسيسي كُتب بعد سقوط نظام استبدادي طويل، بقي أقرب إلى وثيقة مؤجلة التنفيذ، مليئة بالتناقضات، ومفتوحة على التأويل أكثر مما تحتمل من تفسير. أولًا: في التأسيس الهش تمت كتابة الدستور العراقي في ظل احتلال أجنبي، وفي مناخ سياسي مشحون بالتدخلات الدولية والانقسامات الطائفية، ما جعله أقرب إلى صفقة بين قوى ما بعد 2003 من أن يكون تعبيرًا عن الإرادة الجمعية للشعب. غاب فيه التوافق الحقيقي، وحضرت المحاصصة بوصفها القاعدة التأسيسية لا الاستثناء المؤقت. التسرّع في كتابته، ثم طرحه للاستفتاء الشعبي دون وقت كافٍ للنقاش المجتمعي، جعل من الشعب في موقع التصديق لا المشاركة. فحمل النص ما لا يحتمله من تناقضات، وأُفرغ من جوهر العقد الاجتماعي. ثانيًا: الهوية الوطنية المبعثرة ينصّ الدستور على أن العراق بلدٌ متعدد القوميات والأديان والمذاهب، لكنه يفتقر إلى رؤية جامعة لهوية وطنية تُحوّل هذا التعدد إلى مصدر قوّة، لا تهديد. الهوية في الدستور تائهة بين مكوّنات متنافسة لا متكاملة، ولهذا كثيرًا ما يُطرح السؤال: من هو «العراقي» في هذا الدستور؟ وما الرابط الذي يجمعه بمن يسكن معه ذات الأرض؟ أين المادة التي تضمن أن لا يكون الانتماء المذهبي أو القومي أو الحزبي شرطًا للوظيفة أو للانتماء الوطني؟ كيف يمكن لدستور أن يبني دولة مدنية وهو يُفرّق بين المواطنين على أساس المكونات، لا على أساس المواطنة؟ ثالثًا: الصياغات المرنة حتى التلاشي كثير من المواد الدستورية كُتبت بلغة مرنة حد الغموض، أو فضفاضة حد التلاشي، مثل عبارة «تنظم بقانون» التي تُحيل سلطة التشريع إلى مستقبل مجهول. فتبقى الحقوق معلّقة بيد برلمان قد لا يشرّع، أو يشرّع بما يتعارض مع روح الدستور. كما أن مبدأ الفصل بين السلطات، رغم التنصيص عليه، لم يُطبّق فعليًا: -السلطة التنفيذية تغوّلت -السلطة التشريعية أصبحت رهينة التوافقات السياسية رابعًا: الإقليم والدولة من أبرز إشكاليات الدستور العراقي علاقة المركز بالإقليم. فقد منح الدستور لإقليم كردستان صلاحيات واسعة، وصلت إلى حد إمكانية: -تأسيس جيش خاص -توقيع اتفاقيات نفطية خارج إرادة الدولة الاتحادية مما أضعف فكرة الدولة الواحدة ذات السيادة. المفارقة أن هذا الامتياز لا يُمنح للمحافظات الأخرى، ما خلق لامركزية مسيّسة لا لامركزية إدارية عادلة. خامسًا: الحاجة إلى دستور جديد أم تعديل جذري؟ هل يكفي تعديل الدستور؟ أم أن الخلل البنيوي يستدعي كتابة دستور جديد بالكامل؟ هذا سؤال جوهري، لأن تعديل وثيقة تأسست على خلل قد يُبقي على العطب نفسه. المطلوب، كما يرى كثير من المفكرين، ليس مجرد تعديل في النص، بل: -إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة -بين المركز والأطراف -بين السلطة والمجتمع دستور جديد لا يُكتب في غرف السياسة المغلقة، بل يولد من حوار وطني واسع: من منابر الجامعات، وصوت الشارع، وتجارب الشباب والنساء والعاملين، من مراكب الصيادين في الجنوب إلى حقول القمح في السهول الشمالية. الدستور بوصفه مرآة لا قيدًا الدستور لا يجب أن يكون قيدًا على التغيير، بل مرآة له. ولا يجب أن يُستعمل لحماية السلطة، بل لضمان ألّا تتحوّل إلى استبداد. لا قيمة لأي نص لا يحمي الإنسان، ولا طائل من أي دستور لا يُلزم الحاكم قبل المحكوم. العراق لا يحتاج إلى وثيقة تُقرأ في المناسبات، بل إلى عقد اجتماعي جديد، يكتب فيه العراقيون مستقبلهم بأنفسهم، لا بإملاء من الخارج، ولا بصفقات النخب. |