قاسم الغراوي منذ عام 2003 تأسس النظام السياسي في العراق على ثلاثية مفاهيمية ظاهرها التوازن والشراكة والتوافق، وباطنها تقاسم النفوذ والمغانم بين القوى الممسكة بالسلطة. كانت النية المعلنة من وراء هذا البناء هي ضمان تمثيل المكوّنات الاجتماعية ومنع تهميش أي طرف، إلا أن التطبيق العملي حوّل هذه المفاهيم إلى قواعد لتوزيع الدولة لا لبنائها. فبدل أن تكون الديمقراطية وسيلة لترسيخ سيادة القانون وتكافؤ الفرص، أصبحت واجهة شكلية لمنظومة محاصصة حزبية، تُدار عبر تفاهمات داخلية لا عبر مؤسسات دستورية. وهكذا، تحوّلت المناصب إلى حصص، والوزارات إلى إقطاعيات، والهيئات إلى أدوات تمويل حزبي وانتخابي، فغابت قيم الكفاءة والنزاهة والمهنية، وحلّ محلها مبدأ “الولاء قبل الأداء”. أولاً: من التوازن إلى التنازع في البدايات، كان الحديث عن “التوازن” يحمل بعداً لطمئنة مجتمع متنوع ومجروح من صراعات الماضي. لكنّ التجربة أثبتت أن هذا التوازن لم يُبنَ على قاعدة المواطنة، بل على قاعدة المكون (الطائفة) والحزب. ومع الوقت، تكرّس الانقسام العمودي داخل الدولة، فصار كل مكوّن يسعى لتعظيم نفوذه داخل مؤسساته وموارده. وبذلك، لم يتحقق التوازن، بل حدث تنازع على الحصص تحت غطاء “التوافق الوطني”. ثانياً : الشراكة المغلوطة تحوّلت “الشراكة” من مبدأ لتقاسم المسؤولية إلى ذريعة لتقاسم الغنيمة. وباسمها تلاشت المحاسبة، إذ لا يمكن محاسبة طرف على تقصيرٍ في وزارته لأن بقية الأطراف متورطة معه في منظومة التوافق. وبذلك سقط مفهوم “المعارضة الوطنية” من المشهد السياسي، وغاب مبدأ التداول الحقيقي للسلطة، لأن الجميع شريك في الحكومة والجميع بريء في العلن. ثالثاً : التوافق بدل القانون حين تتغلب الصفقات السياسية على النصوص الدستورية، يصبح “التوافق” بديلاً عن “القانون”، وتُدار الدولة بعقلية المفاوض لا بعقلية الحاكم. هذه الحالة جعلت القرارات الاستراتيجية رهينة تفاهمات اللحظة لا رؤى الدولة، وأفقدت المؤسسات معناها، فتحوّلت من أجهزة تنفيذية وتشريعية إلى أدوات تفاوض بين الأحزاب. ممكنات الخلاص وإعادة بناء الدولة الخلاص من هذه الحلقة المفرغة لا يمكن أن يتم بخطابٍ أخلاقي فقط، بل بعملية إصلاح منهجية على ثلاثة مستويات متداخلة: 1.إصلاح بنيوي في النظام السياسي: إعادة النظر في بنود الدستور التي شرعنت المحاصصة عبر مفاهيم “المكوّن” و“التوازن”، وتأسيس نظام إداري يستند إلى الكفاءة والنزاهة لا إلى التمثيل السياسي. 2.إرادة شعبية ضاغطة: وعي المجتمع هو الركيزة الأولى للتغيير. فحين يدرك المواطن أن صوته هو رصيده الحقيقي، وأن الولاء للحزب أو الطائفة لا يجلب له الكهرباء ولا التعليم ولا الكرامة، تبدأ لحظة التحول من “شعب منقسم” إلى “شعب مواطِن”. 3.تجديد النخب السياسية: التغيير لا يأتي من داخل المنظومة الفاسدة، بل من خارجها. المطلوب اليوم ولادة جيل سياسي جديد يؤمن بفكرة (الدولة ) لابفكرة (الغنيمة)، جيل يحمل مشروعاً وطنياً جامعاً يربط بين الحرية والمسؤولية، وبين الهوية العراقية والانتماء الإنساني. 4.دور المؤسسات والمجتمع المدني والإعلام: لا يمكن لأي عملية إصلاح أن تنجح من دون رقابة اجتماعية حقيقية، وإعلام حر ومسؤول يكشف الفساد دون خوف أو تبعية. فالمجتمع المدني هو الحارس الأخير لفكرة الدولة حين تتآكل من الداخل. العراق اليوم لا يفتقر إلى الثروات ولا إلى العقول، بل إلى منظومة قيم ومؤسسات حقيقية تحمي هذه الثروات وتوظف هذه العقول في خدمة الوطن لا الحزب. لن يبدأ الخلاص إلا حين يتحول “التوازن” إلى عدالة، و“الشراكة” إلى مواطنة، و“التوافق” إلى احترام للدستور والقانون. عندها فقط يمكن أن نُعلن ولادة الدولة العراقية الحديثة، دولة الإنسان والكرامة والعدالة. |