محمد عبد الجبار الشبوط انا افترض وادعي ان نموذج الدولة الحضارية الحديثة هو ظاهرة تاريخية بمعنى ان البشرية عبر تاريخها الطويل تسير بخطوات تراكمية نحو تجسيد هذا النموذج في نهاية التاريخ. يعكس تصور نموذج الدولة الحضارية الحديثة كظاهرة تاريخية فكرة أن البشرية تتقدم عبر التاريخ نحو تحقيق شكل مثالي من الحكم، حيث يتم تجسيد قيم الحضارة والحداثة بطريقة مثلى. يتمحور هذا التصور حول سلسلة من التطورات والتراكمات التاريخية التي شهدها المجتمع البشري عبر العصور المختلفة. اعيد هنا ما سبق ان اكدته عدة مرات من ان فلسفة الدولة الحضارية الحديثة تقوم على وتنطلق من تصور منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري للبشرية وعناصره الخمسة اي الانسان والارض والزمن والعلم والعمل. كما اشير الى ان حركة التاريخ البشري تسير وفق ثلاث مجموعات من القوانين تشكّل الاتجاهات التاريخية العامة نوعها الثالث اضافة الى القوانين الحتمية والقوانين الشرطية. وادّعي هنا ان الدولة الحضارية الحديثة هي من مصاديق النوع الثالث من القوانين التاريخية الحاكمة. و يجب فهم أن مفهوم الدولة الحضارية الحديثة يجمع بين الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، حيث تسعى لتحقيق العدالة، والرخاء الاقتصادي، وحقوق الإنسان، والتعليم المتقدم، والعلوم والتكنولوجيا، بينما تحافظ في الوقت نفسه على التراث الثقافي والهوية الفريدة. تاريخياً، يمكن رؤية هذا التطور من خلال عدة مراحل. على سبيل المثال، في العصور القديمة، شهدت الحضارات العريقة مثل الحضارة السومرية و المصرية واليونانية والرومانية والاسلامية محاولات مبكرة لتأسيس نظم حكم متقدمة وقوانين منظمة تعزز رفاهية المواطنين، على الرغم من أن هذه النظم لم تكن شاملة أو مثالية. مع تقدم العصور، وخاصة في فترة النهضة الأوروبية، بدأت تظهر رؤى جديدة حول أهمية الفرد والعقلانية، وهو ما كان بدوره نتيجة للتفاعل مع الحضارات الأخرى وتراكم المعرفة. لاحقاً، جاءت الثورة الصناعية التي جلبت تغييرات هائلة في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي للدول، مما أدى إلى تطور مفاهيم جديدة حول دور الدولة في تعزيز التنمية والرفاه الاجتماعي. في القرن العشرين، تأثرت العديد من الدول بالنماذج الديمقراطية التي ظهرت في الغرب، مع التركيز على حقوق الإنسان وحكم القانون. هذا التحول كان مدعوماً بالتطورات العلمية المتسارعة والتكنولوجيا التي قدمت إمكانيات غير مسبوقة لتحسين حياة الأفراد وتحقيق الدولة الحديثة. ومع بدء القرن الحادي والعشرين، نجد أن العديد من الدول تسعى نحو بناء أنظمة حضارية حديثة تتوافق مع متطلبات العصر الرقمي والعولمة، مما يعني إعادة تعريف ملامح الدولة بناءً على القيم الكونية والاحتياجات المحلية. يمكن القول إن نموذج الدولة الحضارية الحديثة يمثل هدفًا تراكمياً تتجه نحوه البشرية عبر تاريخها، لكنه ليس حتميًا أو نهائيًا. يظل النموذج المثالي للدولة الحضارية الحديثة مختلفًا بناءً على السياق الثقافي والتاريخي لكل مجتمع. ومع ذلك، يظل هناك اتجاه واضح نحو تحقيق المزيد من الكرامة الإنسانية والحرية والتنمية المستدامة، مما يعكس الروح التراكمية لحركة التاريخ البشري. وحين النظر الى الحالة العراقية لا يمكن فصلها عن هذا السياق التاريخي والعالمي العام. فبرغم كل الانتكاسات التي تعرض لها العراق في تاريخه الطويل (اكثر من ٧ الاف سنة) فان الخبرة التاريخية للشعوب العراقية (بصيغة الجمع لشمول كل الجماعات البشرية التي سكنت هذه الرقعة من الارض) كافية لجعلها تنخرط في هذا المجرى التاريخي العام، لا على مستوى الحتمية التاريخية وانما على مستوى الامكان التاريخي لتوفر المستلزمات الاولية لذلك. لذلك نقول ان التراكمات التاريخية للشعوب العراقية ستقود في نهاية المطاف الى ظهور الدولة الحضـــــارية الحديثة في المستقبل بالتــــوازي والتكامل مع الحراك البشري على المستوى العالمي. |