رجاء بيطار
_رويدة.... قومي إلى سريرك يا عزيزتي! ....ويصلني صوته قريباً من القلب،... يتردد عند رأسي بهمس رقيق، فينقلني فجأة من نومتي القلقة المتوترة على المقعد إلى يقظة أشد قلقاً وتوتراً. ...أهبّ واقفة، ترتكز عيناي المفتوحتان بشدة على وجه أحلام الهادئ الشاحب، وتمتد يداي بشكل تلقائي تسويان عليها الغطاء. إنه واقف يراقبني، عيناه تدمعان، ... أشعر به ولكني لا ألتفت نحوه، بل أرطّب شفتيّ الجافتين فتزدادان جفافاً، ... أعدو هاربة إلى غرفتي, وأنطرح على السرير البارد. ... تعاودني الهواجس، ... أسأل للمرة المليون؛ لماذا أحلام ؟! ... لماذا هي وليس أنا ؟! أضغط رأسي بثورة ، بجنون، ... لا بد من أمل، الأمل دائماً موجود ، الأمل في رحمة الله!... وأتهاوى منتحبة ، ... ولكن كيف أطمع في رحمة الله وأنا لم أرحمها ،... كيف أرجو الأمل وقد خنقته مرتين، مرة يوم ولدتها، ومرة يوم أرضعتها السم الذي أتنشقه كل يوم! أهرب من السؤال، ... أزدرد الدمع وأفكر، ... وهو ، ترى كيف يراني؟!هل يراني كما أرى نفسي، هل يكرهني؟ هل...؟ تقهقه المرارة في أعماقي، يتوغل المزيد منها في كياني أجمع، وأتساءل من جديد: علام كل هذه الهواجس والتساؤلات العقيمة؟... إن الواقع لن يتغير، وسواء كرهني عدنان أم لم يفعل، سواء غفر لي أو حنق علي، إن ما جرى لن يتغير ، ...على أن ما يذيب أعماقي ويصهرني الآن ليس هو كل هذا، بل هي أحلام، صغيرتي ، ضحيتي ، ضحية عبثي القاتل! أتكوّم فوق السرير، تزداد الظلمة حولي، أغمض عينيَ فيغمرني سواد الداخل، وربما بقية من دخان تلك السجائر التي طالما ترددت أصداؤها فيَ ونفذت إلى عمق شراييني،... كم مرة صببت جام غضبي عليها وعلى نفسي، كم مرة أشعلت أصابعي وأطفأتها حتى صارت كالفحم الأسود؟!...لست أدري! ...إنه يقبل، أسمع وقع خطاه متوجهة نحو الغرفة، أضغط أنفاسي لكي لا يسمع نزفي، ليس يقلقني أن يرى دمعتي، فهو قد رأى أكثر، ولكني لا أريد أن أستمع لعزائه بعد، لا أريد أن يسكب في سمعي كلماته الدافئة، ليخبرني أنه القضاء، وأن لا ذنب لي في ذلك كله، لأني أعلم أن ما يقوله لي هو نصف الحقيقة! إنه يدنو، صوت تنهداته يزيد لظى أعماقي، فتثور دموعي التي لم تهدأ قط، لأسأل في مناجاة وقهر لا يريم: _ ولكن, لماذا أحلام يا رب؟! لماذا هي وليس أنا؟!...أولم أكن أنا الأجدر بهذا الداء الخبيث؟ أوليس في تلك السحائب السود التي طالما تنفستها ملء رئتي ثم نفثتها في الفضاء حولي، ما يجعل هاتين الرئتين أولى بالداء؟...أم أنك تريد أن تحمّلني وزري وتكويَني بناري؟! أجل إن قضاء الله لا مفر منه حقاً، ولكنّ لقضائه هذا سبباً....فأنا، كما أكد لي الطبيب والتحاليل والتقرير الطبي، ... أنا، بكل ما في اللفظة من انصهار وتفتت وصمت يعتصر الكيان ويشعله كسيجارة تأكل نفسها حتى الفناء، أنا هو ذلك السبب، لأني المدخّنة الوحيدة في البيت! سعالها يتردد الآن في أرجاء وجودي، يتناهى إلى أدق ذرة في كياني ، ... أنتفض بجنون، أقفز من مكاني، أصطدم بعدنان فلا ألتفت إليه، بل أزحف نحو غرفتها، ... أجر نفسي وأجلس قربها، ... أحتويها بذراعيّ، أتلقى خلجات أنفاسها بضجيج قلبي، وحرارة زفراتها بلهيبي, وأغسل وجهها المرهق المحموم بفيض دمعي، تفتح عينيها وتنظر إليّ,، تضمني وتبتسم , ثم تعود إلى النوم!... نفسي تطير شعاعاً، ضمّتها تنفذ إلى أعماقي، أصابعها الرقيقة حراب تنهش إهابي بطهر ورحمة، ألصق خدي بخدها ... أتنشق أنفاسها، أواه! ليت هذا الداء يتغلغل في رئتي عبر هذه الأنفاس، ليته يتحول رماداً أو دخاناً أو حتى سعيرا تلفظه أحلامي فأتنفسه، أتنشّقه وأستلّه من جسدها الغضّ ، لتعود إليها النضارة والحياة، لا يهمني بعد هذا أن أستعر وأموت! ... الموت يقترب، ... يخيّم علينا بظلّه الأغبر الكثيف ، يفغر فاه ليلتهم بقايا الأحلام الملتصقة بجدار القلب، ... وردتي تذبل، تعتصر منها الزفرات بقايا الدماء التي تورد وجنتيها الشاحبتين، وبقايا الخفقات التي تتراوح في الكيان المرهق، ... يتردد السعال، تتحوّل الأنفاس إلى لهاث، ثم إلى صديد ودماء،... تتباطأُ الخفقات ، ثم تتخافت ،... تتراقص الأنفاس كشعلة ذاوية، ثم يتهاوى اللهب الأخير، ...يشعل دمعي ودمي وقوداً لا ينطفئ، ويضجّ الدخان في كل أوردتي الدامية، أطلق بركاني حمماً لا تهدأ ولا تستكين، ثم أغوص في زاويتي ، ويتراكم رمادي فوق بقايا سيجارة لست أدري متى تنتهي، فأنتهي....!! |