د. السيد ولد أباه
قبل أيام أحيينا ذكرى فقيد الفكر العربي محمد عابد الجابري، كان الرجل مهموماً بمآلات ما دعاه «المشروع النهضوي العربي»، الذي كرس له جل أعماله دراسة وتشخيصاً ونقداً وتجديداً. رحل الفقيد قبل أن يرى انهيار مركز النهضة العربية الحديثة (بلاد الشام)، وقبل أن يشاهد استفحال الحرب الأهلية في بعض أرجاء العالم العربي. في مثل هذه الظروف يصبح السؤال عن تركة النهضة العربية لغواً من الجدل، بيد أن مرور قرنين كاملين على انطلاق ما اصطلح على تسميته بالمشروع النهضوي العربي يقتضي وقفة رجوع إلى هذه اللحظة التأسيسية في الفكر العربي الحديث الذي يعيش في أيامنا أزمة عميقة في الرؤية والمرجعية والتوجهات.
ولنشر منذ البداية إلى أن عبارة «نهضة» نفسها تقتضي الانتباه، باعتبارها الأكثر شيوعاً بين مقولات أخرى عديدة أطلقت على هذه المرحلة من بينها «الإصلاح» و«التحديث» و«التنوير». وإذا كانت العبارة ترد بطرق عرضية وملتبسة في نصوص رواد الفكر العربي الحديث، فإنها قد شاعت بقوة بعد كتاب «ألبرت حوراني»، الذي أعطاه عنوان «العرب في فكر عصر النهضة» (صدر بالإنجليزية عام 1962)، وقد غطى فيه المرحلة الممتدة من1789 إلى سنة 1939. وقد أصدر من بعده غالي شكري كتابه «النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث»، وفي التسعينيات أصدر الجابري كتابه «المشروع النهضوي العربي» ووجيه كوثراني في كتابه «المشروع النهضوي العربي». في كل هذه الأعمال تناول المؤلفون مقولة «النهضة» لتشمل مختلف مطامح الفكر العربي الحديث للإصلاح والتجديد، دون الالتزام بالمرحلة التأسيسية المذكورة. كما تم النظر إلى أن مشروع النهضة لا يزال مطروحاً وقائِماً. بطبيعة الأمر يختلف هذا المفهوم عن مقولة «النهضة» في دلالتها الأوروبية التي هي محطة تاريخية لا تتجاوز القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فهي المرحلة التي سبقت لحظة الإصلاح الديني التي تلاها عصر الحداثة ثم عصر التنوير. تشمل مقولة النهضة في الوعي العربي الراهن كل هذه المفاهيم وتستوعبها، رغم أن بعض الباحثين برر استخدام هذا المفهوم بالنظر للتشابه الجلي بين الإصلاحيين العرب ورواد النهضة الأوروبية من فكرة إحياء الماضي من منظور إنساني تحرري (التراث اليوناني الروماني بالنسبة للكتاب والفنانين الأوروبيين والتراث العربي الوسيط بالنسبة للعرب)، وتركيز على المباحث اللغوية، وتحرر من قبضة المؤسسة الدينية، وبلورة الرابطة الثقافية القومية. ومع ذلك الفروق بينة بين الاتجاهين، باعتبار تشبع الإصلاحية العربية بأفكار الحداثة والتنوير التي لم تكن برزت في لحظة النهضة الأوروبية.
في تعريفة للنهضة الأوروبية، يذهب المؤرخ الفرنسي «جيل ميشليه» إلى أن هذه المحطة هي لحظة اكتشاف أوروبا لمفهومي الإنسان والعالم، بالجمع الوثيق بين العقل والفن، والجمال والحقيقة. وهذا التحديد هو الذي ساد في القرن التاسع عشر، بالنظر إلى هذه المرحلة بصفتها لحظة فاصلة بين العصر الوسيط والحداثة، وإن كانت حدود التمييز بينها وحقبة الإصلاح الديني عصية الضبط (نشر مارتين لوثر أطروحاته الإصلاحية عام 1517 ممهداً الشرخ القوي داخل التقليد المسيحي).
من المتاح تتبع مسار النهضة العربية عبر محطات معروفة هي: الإصلاحية العثمانية، ونعني بها المقاربات الأولى المتناسقة لتحديث البناءات المؤسسية للدولة من خلال إعادة بناء جهازها البيروقراطي والعسكري، ونظمها الدستورية ومنظومتها التربوية (خير الدين التونسي والطهطاوي)، والإصلاحية الدينية، واللحظة الحداثية العلمانية (شبلي شميل، فرح أنطون..)، وقد يضيف لها البعض اللحظة القومية العربية، بيد أن هذه المقاربة تعاني من تعسف واضح في تحديد التخوم الفاصلة بين توجهات سراة النهضة العربية، باعتبار أن الأبعاد الإصلاحية والتنويرية والحداثة حاضرة بإيقاعات متباينة في كل هذه اللحظات، وأن كان الشرخ بين مقومات الإصلاح الديني والمنظور التحديثي قد برزت بقوة منذ العقد الثاني من القرن العشرين مع ما استتبع هذا الشرخ من ردود فعل انكفائية في الفكر الإسلامي بعد لحظة عبده والأفغاني. كان «عبد الله العروي» في السبعينيات قد لاحظ أن «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» تنزع إلى القيام بمهمات متزامنة متعارضة من حيث الخلفيات الفكرية والتاريخية: إصلاح الدين وتنوير المجتمع وتحديثه والقيام بالثورة الاجتماعية. ما كشف عنه المأزق العربي الراهن هو الإخفاق في المهمات المذكورة، مع العودة القوية، وإن من منطلقات مغايرة إلى تفوق النهضة الغربية في ملفين خطيرين هما: ملف الإصلاح الديني في مواجهة الراديكاليات الإسلامية، والإصلاح السياسي لانتشال الأوطان الممزقة والدول الفاشلة.