الدكتور ليث شبر حينما كتبتُ عن ثلاثية الإنسان والمجتمع والدولة في القرآن، كنتُ أبحث عن البنية الكلية التي أراد الوحي أن يرسمها لنا: إنسان حيّ بضميره، ومجتمع متماسك بقيمه، ودولة عادلة برسالتها. لكن مع تقدّم البحث، بدا واضحًا أن هذه الثلاثية لا تكتمل من دون أن يضاف إليها ركن رابع، هو الدين، لا باعتباره مؤسسة دينية أو سلطة خارجية، بل باعتباره روحًا نابضة تحيي هذا الكيان وتمنحه بعدًا وجوديًا أعمق. أرادنا القرآن أن نقرأه قراءةً تدبرية نقدية واعية، تربط بين النص والواقع، بين الوحي والعقل، بين القيمة والممارسة. ولم يرد لنا أن نحوله إلى شعار أو أن نضعه على الرفوف، بل أن نجعله مصدر إلهام حي ينعكس في بناء الإنسان والمجتمع والدولة. القرآن لم يُعرّف الدين كهوية تُرفع أو شعار يُعلَّق، بل كعلاقة حية بين الإنسان وربه، بين ذاته العميقة وصوتها الداخلي. لذلك نجد أن الآيات لا تملّ من ربط الإيمان بالعمل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. هنا يتحوّل الدين إلى معيار للصدق الداخلي، لا بطاقة انتماء خارجي. السؤال الذي يفرض نفسه: أيمكن أن يكون الدين بلا أثر في سلوك الفرد إلا قشرة خاوية؟ وحين يقرر القرآن: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، فهو لا يضع مبدأً عابرًا، بل يحدد قاعدة الوجود الاجتماعي. فالمجتمع الذي يُبنى على القسر والإكراه هو مجتمع هشّ لا يصمد أمام الزمن. إن حرية الاعتقاد ليست تفصيلًا ثانويًا، بل هي الشرط الأول لبناء مجتمع متماسك؛ لأن الإيمان حين يُفرض يتحول إلى نفاق، أما حين يُختار بحرية فإنه يُصبح رابطًا صادقًا يثري التنوّع بدل أن يلغيَه. في بنية الدولة القرآنية، العدل هو القيمة العليا: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾. وهنا يظهر الدين لا كشرعية فوقية تحتكر السلطة، بل كروحٍ توجّه الدولة إلى أن تكون عادلة. فالعدل ليس قيمة أخلاقية فحسب، بل هو وظيفة سياسية وقانونية. والدولة التي تفشل في إقامة العدل تفشل في جوهر رسالتها، مهما رفعت من شعارات دينية. بهذا المعنى، يتحول مشروع القرآن إلى رباعية متكاملة: الإنسان الذي يبحث عن معنى وجوده. المجتمع الذي يتماسك بالحرية والتنوع. الدولة التي تُقيم العدل وتصون الكرامة. الدين الذي يمنح هذه الثلاثية روحها ومعناها، لا بوصفه مؤسسة أو سلطة، بل بوصفه رسالة حيّة تُبقي الإنسان والمجتمع والدولة في مسار نبضها الأصلي. ونحن حين نعيد قراءة الدين في القرآن، ندرك أنه لم يُقدَّم لنا كجدار يُفصل بين الناس، بل كنبضٍ يربطهم بالسماء والأرض في آنٍ واحد. فهو الطاقة التي تمنع الإنسان من التحوّل إلى آلة، وتمنع المجتمع من الانهيار إلى قطيع، وتمنع الدولة من الاستحالة إلى طاغوت. الدين في القرآن هو الحلقة الرابعة التي تجعل من رباعيتنا نسقًا حيًا، لا مجرد هندسة نظرية. إن ما نطرحه اليوم من مشروع لبناء الدولة المدنية الذكية السيادية النابضة لا يمكن أن ينفصل عن قراءة الدين في القرآن بهذا المعنى الحيّ. فالدولة التي ننشدها لا تريد أن تُسقط الدين أو أن تحوّله إلى سلطة قهرية، بل أن تعيده إلى وظيفته الأصلية: روحًا حية تُلهم الإنسان، وتمنح المجتمع قيم الحرية والتنوع، وتُوجّه الدولة نحو العدل والكرامة. إن الدولة المدنية الذكية تعني أن تكون مؤسساتها عقلانية متطورة تستند إلى العلم والمعرفة والتكنولوجيا. والسيادية تعني أن تحمي استقلالها وقرارها الوطني بعيدًا عن التبعية. والنابضة تعني أن يكون لها قلب حيّ يتغذى من نبض المجتمع وقيمه، وفي مقدمتها الدين كما فهمه القرآن: رسالة حرية وعدل وكرامة، لا مؤسسة منغلقة ولا خطابًا إقصائيًا. هكذا يصبح الدين في مشروعنا ليس عبئًا على الدولة، ولا ذريعة للانقسام، بل هو عنصر تكاملي يربط بين الإنسان والمجتمع والدولة، ويمنحها جميعًا المعنى والروح. وبهذا نكون قد انتقلنا من قراءة الدين كتراث جامد، إلى استحضاره كطاقة حية تساهم في صياغة مستقبل العراق والدولة الحديثة التي نؤمن بها. |