محمد طيفوري
لهند بلد لا شك نعرفه قاطبة، فمن منّا لم يسمع به في قصص وروايات طفولته، أكيد قرأ عن حضارته في كتب التاريخ، أو حالفه الحظ في مشاهدة فيلم سينمائي من روائع بوليود التي تزخر بها الصناعة السينمائية بالهند. وإن لم يكن شيء من كل ذلك، فقطعاً سيعرف الهند من خلال أبي الهند المعاصر المهاتما غاندي ومقاومة الاستعمار البريطاني بالعصيان المدني.أي نعم نعرف هذا البلد، لكن في ذات الوقت نجهل عنه كل شيء، فقلة من العرب تعلم أن مجدا حضاريا إسلاميا مثلته الدولة المغولية (1858-1556) مر هناك، وبلغت تلك الدولة أوجها مع جلال الدين محمود الملقب بـ”أكبر” الذي قاد تجربة فريدة في التقريب بين المذاهب؛ الأفغان السنة والأوزبيك الشيعة، وبين المدارس الفكرية؛ الفقهاء والمتصوفة، وثالثا بين الأديان؛ المسلمين والهندوس. وقدمت درسا في التعايش والتسامح والاعتراف والقبول بالآخر عز نظيره في التاريخ.لكن الدعوة للتعرف على هذا البلد، لن تكون بالعودة إلى تاريخ الهند ولا لجغرافيته الطبيعية والبشرية المتنوعة، كما لن تكون من مدخل اقتصادي مع الصناعة السينمائية أو السياحية الرائدة هناك. وإنما سيكون من باب الأدب بجولة في ثلاثة أعمال روائية هندية فيها وبها سنعرف كثيرا عن هذا القطر الكبير مساحة وحضارة.ثلاثة مؤلفات حديثة الإصدار لا قاسم مشترك بينها سوى ذاك السفر الذي تُقدمه كل واحدة منها لنا في أعماق هذا البلد “المجهول”، لا بل تشعر عند قراءة كل واحدة بأنك لا تعلم شيئا عن الهند. وأولها رواية “أطلس الحنين المستحيل” لروائية الشابة أنورادا روي (2008)، ترجمة محمد درويش (دار الآداب/ 2014). أما الثانية فهي “النمر الأبيض” لآرافيند أديغا الحائز على جائزة البوكر لعام 2008، ترجمة سهيل نجم (ثقافة للنشر والتوزيع/2010). وآخرها رواية “الرامايان: ملحمة الإله راما” ترجمة دائرة المعارف الهندية (دار نينوى/2007).
ماضينا هو مستقبلهم تأخذنا الروائية أنورادا روي، وعلى امتداد 500 صفحة في ثلاثة أقسام (البيت الغريق، القلعة الأثرية، وحافة الماء)، إلى هند بداية القرن الـ20، بالغوص في أدغال الطبيعة والصفاء والهدوء وسط الأرياف، حيث تقدم لنا مسار تطورات الحياة من خلال ثلاث شخصيات؛ رب الأسرة أموليا، ابنه نرمال وموكوندا كفيل العائلة المتبنى.يمثل هؤلاء صورة عن ثلاثة أجيال من الهنود الذين أضنتهم الاضطرابات، وقهرتهم الخيبات، سواء من خلال إدخال أدوات الإنتاج، أو التعرض للظلم والاستغلال، أو رؤية مشاهد من التحارب المضمَر بين أبناء الطبقات، ودور سلطات الاستعمار في إبقاء التهدئة قائمة، أو رؤية الخراب دون إمكانية الترميم أو الاستدراك.تضاؤل فرص تحقيق حلم مستقبل أفضل، جعل نوستالجيا الماضي حاكمة لمجريات الحكي، بالحضور القوي لمشاعر النفي والقهر لدى الإنسان الهندي الذي أضحى غريبا في أرضه، ليس الإنسان فقط بل ذاكرة المكان أيضا باستعادة أساطير مدن مفقودة وأماكن غارقة تحت الماء.قد يكون موكوندا أحد أبطال الرواية ذاك الحلم العصي عن التحقق بهند لكل الهنود، بالنظر إلى يُتمِ البطل الذي حرره من التراتبية الاجتماعية؛ فهو ابن للهند، وبالتالي رمز للانتماء للوطن وكناية عن الوحدة لا الانحصار في هذه الطبقة أو تلك.
ابن عالم الظلام يحملها آرافيند أديغا هذا الهندي/ الأسترالي المحرر الصحافي بفاينانشيال تايمز طوال سبع ليال في روايته (316 صفحة) التي يُقدمها في شكل رسائل موجهة على لسان البطل بالرام حلوي (نصف المخبوز، النمر الأبيض...) إلى رئيس وزراء الصين الذي سمع عن زيارة مرتقبة له لمدينة بنغالور التي يَقطن فيها بطل الرواية.الرواية صرخة ضد الظلم والاستبداد اللذين يعانيهما الإنسان في الهند، فمنذ الليلة الأولى يُعلِنها صراحة بقوله: “يا صاحب السعادة إن الهند تمثل بلدين في بلد واحد: هند النور، وهند الظلام. المحيط يجلب النور لبلادي. كل مكان في خريطة الهند قرب المحيط يعيش في رخاء. لكن النهر يجلب الظلام للهند؛ النهر الأسود”. ويستمر أديغا في أسلوب الفضح مصورا واقع التناقضات الحادة داخل البلد؛ حيث يتقصى التفاصيل هنا وهناك، فيستلهم شخصيات روايته من هذا الواقع بكل تناقضاته الصارخة، كاشفاً المؤامرة التي يعيش فيها المواطن الهندي البسيط من قبل الملاكين وأصحاب الثروات الطائلة التي كونوها عبر استيلائهم على خيرات البلد، فاضحا في ذات الآن بأحداث تقع لبطل روايته “النمر الأبيض” حجم الفساد الهائل الذي تعانيه المؤسسات الهندية، خاصة عندما ينظر إليها الآخرون باعتبارها أكبر ديمقراطية في العالم. كل ذلك، وتبقى الرواية حافلة بالإشارات الذكية والتلميحات الخفية التي يضمنها الراوي رسائله إلى من يهمه الأمر؛ مع الاحتفاظ بمنسوب عال من السخرية على واقع مرير ومؤلم. فها هو يصف نفسه حين اشتغل نادلا بالمقهى بالعنكبوت البشري، وعن حال قريته يعلق باستهزاء “أعمدة الكهرباء ميتة، وأنابيب الماء محطمة. الأولاد نحاف جدا وقصار بالنسبة إلى أعمارهم، ورؤوسهم كبيرة ويمكنك أن ترى بوضوح أن أعينهم تلمع مثل الضمير المذنب للحكومة الهندية”.وتستمر الكوميديا السوداء، مقارنة بين الماضي والحاضر “الخلاصة في الأيام الخوالي كانت هنالك ألف طائفة ومصائر مختلفة في الهند. أما في هذه الأيام فليس هناك إلا طائفتان: طائفة الناس ذوو الكروش الكبيرة، وطائفة الناس ذوو البطون الضامرة. ليس هنالك إلا مصيران: أن تأكل أو تؤكل”. وتحضر السخرية كذلك في وصف مشاكل التقدم والصناعة بالهند “في كل مرة تقف فيها عند إشارة المرور الحمراء، ترى صفا من الرجال الذين يضعون النظارات السوداء والأقنعة على وجوههم حتى لكأن المدينة بأكملها كانت تريد أن تسطو على مصرف في ذلك الصباح”. إنسان المعجزات بعيدا عن أعطاب الهند الحديث نهيم في ملحمة الرامايانا طوال صفحات نيّفت عن 200 في سماء الروحانيات، إذ يسيح بنا الشاعر الهندي فالميكي – يقال إنه محرر الملحمة في صيغتها النهائية في القرن الأول قبل الميلاد – في عوالم الفكر والدين في الحضارة الهندوسية والنهد القديمة. تروي كيف نجح الأمير راما بطل الملحمة بشمال الهند في تخطي العقبات الجغرافية والعسكرية ليحرر زوجته التي خطفها الملك راون وأسرَها في جزيرته المحصنة. وخاض من أجل ذلك حربا مقدسة، حرص ألا تكون دموية قدر الإمكان بعد أن تاه في الأرض بسبب نفيه من قبل والده الملك دساراتا جراء وعد قطعه هذا الأخير لزوجته الصغيرة. تنوع وغنى أحداث الملحمة ليس غاية في حد ذاته، بقدر ما يقدِم لنا قيما روحية عديدة يجسدها في أبطالها (الطاعة، الوفاء، الخضوع، الإخلاص، التضحية، والتسامح...)، إنها باختصار صورة عن ذلك الجانب الروحي في الشرق القديم، كما يسميه العرب حين كانوا هم المركز. قراءة هذه الثلاثية الأدبية تساعدنا على معرفة الشيء الكثير عن بلد قلما نهتم به، نظرا لتلازم عوائق منها الجغرافيا واللغة والتباين الثقافي وإن كان للعرب نصيب وافر من التعامل معه قديما.
|