النمسا ـ طلال مرتضى قال: ليست «مرثية الغبار» أكثر ثراء من «وردة الندم»، بالمطلق «لا شيء من كلّ هذا» الضجيج ينجيني، «فراديس الوحشة» افتعال عن سابق إصرار وترصّد. سأعترف ملء الكلام، أنا من أطلق «فراشات لابتسامة بوذا» كي أكمّم «صراخ الأشجار»، بريء من هذا الدم الذي تشرّبته «قمصان يوسُف»، لم تكن لي «شهوات مبكرة»، جلّ ما ارتكبت أنني قرأت على الملأ «بيروت في قصائد الشعراء». «إلى أين تأخذني أيها الشعر؟» في موسم «هجرة الكلمات» وقد ملّتني «مدن الآخرين»؟ لعلني توقفت طويلاً أوّل السطر، ولسان الحال يردّد: هذا الرجل يعرف جيداً من أين يُقرض الحرف، لكن وساوس الكلام لا تفتأ عن لكز لساني، يجرّني نحو مطبّات «الحكي»، الفكرة نائمة شقي من أيقظها. هنا أدلي بملء إرادتي: إن ما افتعله بزيع بين ضفّتَي «إلى أين تأخذني أيها الشعر؟» ليس شعراً، وتلك الكلمات الموسومة بقصائد ما هي إلا حروف سجينة تحت بند «ما ملكت أيمانكم» روضها طيّ الورق. هي دعوة الشاعر لحضور معرضه المؤلف من ثلاث عشرة لوحة، معنونة بقصائد، ضجّت بها صفحات المطبوع، ابتدعت بحساسية فائقة، رصفاً كمنمنات فسيفسائية لفنان من العصور الوسطى، نسجاً كسجادة فارسية لظم خيوطها نوّال حاذق: لم يعوزه إلا طرف الخيط/ الذي لم تتضح وجهته في غبش الرؤيا. أمام هذه الهالة من اللوحات التي تشكلت تجريداً على سطوح الورق الموشاة بألوان مختزلة استعادها بزيع من «كبد الشموش المضمحلة» وهو يتعقب رائحة السطوح الخلبية لانحلال الزيت في جسد القماشة، غير آبه بما حدّثنا: تواطؤاً للشكل مع مجهوله الضوئي». يمنح الكلمات فرصة أخرى، «قدرتها على التنقيب عن كنز الوجود الأوّلي». لينزع إلى أبعد من تداعي السرد، «أبعد من محاولة العثور على سياقاتٍ ملفقةٍ»، مستجدياً عبر سلطة اللون أنثاه العاشقة معترفاً: لم تك لي قدرة الشعراء على الرقص فوق حبال الكلام فالكتابة ليست سوى امرأةٍ لا تريد أقلّ من الموت مهراً لها! في حضور هذا المعمار للقصيدة اللوحة، تتجلى المشهدية البانورامية للنص ـ المشهد الكلّي ـ التي تداخلت في تكويناتها مضمرات العمل، شيفراته، عبر حلقات منمنمة صيغت بتوازن وتناسب متناغم منسجم متكاثف الرؤى، التصوّرات والأفكار، لتشي دلالاتها، عمق المعنى في الصورة، بحضور ذهني متّقد، لحظة الوعي في القصيدة مزج الفكرة مع الشعر ، من دون الخدش بشمولية الوحدة العضوية للنصّ، تناسب الشكل والمضمون والأثر. كلّ هذا عبر إدماج سطوح القصيدة اللوحة ـ الكلمات ـ مع التراكيب الجوانية لها، المعنى، للوصول إلى الشكل البنائي النهائي، شكل المقطع النصّي والجمل، الذي طلسمه بزيع باجتراعه معصية القصيدة اللوحة: هكذا طوف اللون بي في مسطحه الخلّبي فأضحى صراعي مع الشكل أعالج بالفحم أو بالرصاص المجرد يتم الحياة التي أقفرت. وفي افتعال جمالي لتصاوير اللون يقول: كنت أدرك بالحدس أنني ابن طقطقة النار أؤلف من لوحتي طرقاً للرحيل. في موضع ثانٍ لينفي سلطة الحبر: وأعالج بالزيت ضوءاً عليلاً يحلّق في لوحةٍ لم تتمّ
وأسأل ما رسم؟ وفي هذه اللحظات تماماً كم امرأة تستعد لترويج فتنتها في مزاد المرايا؟ أقول إن جردة حساب للتوّ جرت بين الشعر وبزيع، كخلّين تشاركا على ستر بكارة اللغة، علا صوت الأخير حين أمطر شريكه العتيق بوابل الأسئلة المباحة، من خلال عتبات عريضة: إلى أين تأخذني أيها الشعر؟ من يهدي الحياة إلى طراوتها؟ لمن يكتب الشعراء؟ وماذا سيمكن للقصائد أن تقول؟ وهو العارف أن، ما بين شحّ الوجود وبين الترف سوف يوفر للمطرقين أمام تناغم لوحاته متعاً غير آيلةٍ للنضوب. شوقي بزيع وقبل أن يقفل ضفاف روحه، يرنو بعمق باحثاً عن أناه في «رقصة سالومي» مطمئناً غير متذمّر: ربما شاعر آخر عند أقصى مجاهل أفريقيا يجلس الآن مثلي كيما يراوغ لغة لست أفهمها شبهاتٍ مماثلةً.
|