محمد شريف أبو ميسم يحاول البعض تسويق مفهوم الخصخصة كمرادف للاستثمار، مستغلا فضاء المغالطات التي تصنعها وسائل الاعلام المتخمة بغير ذوي الاختصاص في انتاج خطابها الاعلامي.. وربما يكون هذا التسويق بقصد تقف وراءه الرغبة في نقل البلاد كليا نحو ديمقراطية رأس المال، بدعوى الجنوح نحو ليبرالية السوق، أو بغير قصد ظنا ان الخصخصة ستعين البلاد على تجاوز أزمتها المالية وتخلي مسؤولية الحكومة من ادارة ملف الشركات الخاسرة بفعل الفساد والترهل.. والخصخصة يراد بها بيع ملكية المنشآت العامة الى القطاع الخاص بمعنى نقل الطاقات القائمة لافراد قادرين على شراء أصولها، فيما يعرف الاستثمار على انه توظيف للمال في نشاط اقتصادي مشروع ليعود بالمنفعة العامة والخاصة، بمعنى اضافة اصول عامة أو خاصة للطاقات المتاحة. ومن الوجهة المفاهيمية فان استخدام الأموال الخاصة لشراء الاصول العامة يعد استثمارا في اطار الوظيفة النفعية التي وجد من أجلها المال الخاص، ولكنه من الناحية العملية نقل ملكية لا أكثر ومصادرة للعام على حساب الخاص، وبالتالي فان من يدعو الى الخصخصة ليس كمن يدعو للاستثمار، لأن الثاني يدعو لاضافة طاقات جديدة على الطاقات المتاحة بهدف السعي لزيادة معدلات النمو في الناتج المحلي الاجمالي. ومن المهم هنا بيان أهمية الملكية العامة في سيادة الدولة خصوصا في الاقتصاديات المتخلفة أو تلك التي تسمى النامية في ظل عولمة اقتصادية مرعبة، اذ غالبا ما تصادر هذه السيادة اذا ما سحبت الاموال من البلد تحت أي ظرف كان، نعم تبقى الاصول غير المنقولة ولكنها وفق القانون تعود لأفراد وشركات وتبقى الحكومات عاجزة في ادارة شؤون البلاد، ما يعني ان الكلمة الفصل ستكون دوما لرأس المال الخاص في تسيير شؤون البلاد. ان فكرة عدم القدرة على محاربة الفساد في الشركات العامة ما لم يتم بيعها للقطاع الخاص هي في الحقيقة مشروع ليس بالجديد، اذ أسس له الحاكم المدني بول بريمر من خلال أدوات متنوعة، تتقدمها حزمة القوانين التي شرعت في عهده والمليئة بالثغرات وطبيعة النظام السياسي الذي يدار بالمحاصصة، فضلا عن الفوضى الناجمة عن تعاقب الأزمات السياسية وما ترتب عليها من تدهور امني متواصل، ما أدى الى مزيد من سوء الادارة المالية وتفشي الفساد بكل أشكاله. حتى جاءت أزمة انخفاض أسعار النفط لتسقط ورقة التوت عن شكل العراق الجديد، الذي يراد أن تكون فيه الدولة مصادرة كليا لرأس المال وهي تنخرط في المنظومة الاقتصادية العالمية التي تقودها شركات العولمة. وبناء عليه فان الحكومة الحالية - وهي تتحمل المسؤولية التاريخية لهذا التأسيس - مطالبة وفق برنامجها الاصلاحي بتشريع قانون ينظم مشروع اعادة هيكلية الشركات العامة، بما يضمن اضافة طاقة جديدة في حضور لإرادة المالك الأصلي لهذه الاصول «وهو الشعب» وفق آليات تضمن الافصاح والشفافية، وتمنع توظيف أموال المفسدين من الولوج الى ساحة الخصخصة، وتلزم الجهة القائمة على هذا المشروع بعدم الشروع ببيع الاصول العامة قبل التأكد من مصادر الأموال، فضلا عن أهمية وضع التشريعات المتعلقة بتنظيم علاقات السوق موضع التنفيذ بهدف تنظيم المنافسة ومنع الاحتكار وحماية المستهلك وحماية حقوق العمال وحماية البيئة، والتي تفضي بالنهاية لوجود قطاع خاص حقيقي خاضع لحزمة القوانين والتعليمات المتعلقة بالتحاسب الضريبي وقانون العمل وقانون التقاعد والضمان الاجتماعي، اذ ليس من المعقول أن تنقل ملكية الشركات الخاسرة بفعل الفساد الناجم عن تشكيلة المحاصصات التي جاءت بها القوى النافذة لتكافأ على فعلتها، علاوة على ان كيان الدولة لا يزال يعاني من التجاذبات والتناحرات السياسية، ما يشكل خطرا تأسيسيا لكيانات رأسمالية مفسدة تمسك بزمام الاقتصاد وتبقى متحكمة في ادارة اللعبة السياسية، علاوة على الغموض الذي يحيط بمشروع اعادة هيكلة الشركات العامة، فضلا عن غياب القطاع الخاص الحقيقي، اذ لم ترتقِ بعد نسبة مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الاجمالي لأكثر من 5 بالمئة على الرغم من الدعم الكبير الذي حصل عليه خلال السنوات الماضية والذي يقدر بأكثر من 2 ترليونات دينار في القطاع الزراعي فقط. ومن دواعي الدهشة أن يدعو البعض من الساسة لبيع عقارات الدولة التي تقدر بنحو 600 ألف عقار بدعوى معالجة العجز ضمن موجة الخصخصة، وهذا العدد الهائل من العقارات لو تمت ادارته بنزاهة وشفافية فإنه كفيل بتوفير ما لا يقل عن سبعة ترليونات و200 مليار دينار سنويا للموازنة العامة، اذا افترضنا ان ايجار العقار الواحد مليون دينار شهريا فقط، الا ان الأصوات التي أسست لما تعاني منه البلاد حاليا تبشر بأن قيمة بيع هذه العقارات ستوفر للحكومة 150 مليار دولار تستطيع من خلالها أن تخرج من أزمة عجز الموازنة، وهذه الكارثة ان حصلت فان الأحزاب والشخصيات المتنفذة ستستحوذ على هذه العقارات وستذهب الأموال لتحقيق الاهداف السياسية للجهات المتنفذة. ان الخلل في ادارة الدولة الذي أفضى الى فشل في ادارة الموارد، يمكن أن ينسحب الى نتائج كارثية على البلاد والعباد اذا ما تم الشروع بالخصخصة دون محاسبة المفسدين وناهبي المال العام، اذ ان هذا الفشل سيجيّر على شكل نجاحات لصالح رأس المال الفاسد ويرهن مستقبل الاقتصاد بيد المفسدين.
|