المستقبل العراقي / محمد النصراوي
في أزقة بغداد الضيقة، حيث يختلط ضجيج الحياة اليومية بصدى السياسة المثقلة بالتاريخ، تبرز قضية «نزع سلاح الفصائل» ليس كعنوان فني أو إجراء إداري، بل كفلسفة وجودية تلاحق الدولة العراقية الحديثة، إن المشهد الذي يراه المراقب اليوم يتجاوز مجرد جمع قطع من الحديد والبارود؛ إنه محاولة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي بين المواطن والسلطة، في بيئة جغرافية وسياسية معقدة، حيث يتداخل مفهوم «المقاومة» مع «بناء الدولة»، وتتقاطع فيها المصالح الإقليمية مع الطموحات الوطنية، مما يجعل من ملف السلاح المنفلت واحداً من أكثر الملفات استعصاءً وحساسية في تاريخ العراق الحديث.
سياقات التشكل وجدل الشرعية لا يمكن فهم تعقيدات ملف السلاح في العراق دون العودة إلى الجذور التي نبتت فيها هذه الفصائل، لقد ولد الكثير منها في لحظات الفراغ الأمني أو في ذروة التهديدات الوجودية، لا سيما في حقبة الحرب ضد تنظيم «داعش»، تلك اللحظة التاريخية منحت هذه القوى شرعية مجتمعية وقانونية لاحقاً عبر هيكلية «الحشد الشعبي»، مما خلق ازدواجية فريدة في المشهد الأمني، هذه الازدواجية هي التي تضع صانع القرار اليوم أمام مأزق «الشرعية الموازية»؛ فكيف يمكن للدولة أن تطالب بنزع سلاح ساهم في حمايتها في لحظة انكسار؟ هنا تبرز الحاجة إلى لغة سياسية هادئة، لا تسعى لكسر الإرادات، بل تهدف إلى استيعاب القوة ضمن قوالب الدولة الرسمية، وتحويل السلاح من طابع «الفصائلية» إلى طابع «المؤسساتية»، وهو مسار طويل يتطلب ثقة متبادلة تبدو أحياناً مفقودة وسط التجاذبات السياسية الحادة.
التوازنات الإقليمية وظلال «الخارج» إن السلاح في العراق ليس معزولاً عن محيطه؛ فهو يتنفس من رئة الصراعات الإقليمية والدولية، يدرك المحللون أن أي تحرك جدي نحو حصر السلاح بيد الدولة لا بد أن يمر عبر توافقات كبرى تتجاوز الحدود الجغرافية للعراق، فالعراق بموقعه الجيوسياسي، يمثل ساحة لتصفية الحسابات أو لتوجيه الرسائل بين القوى العظمى والإقليمية، لذا، فإن الدعوات لنزع السلاح تصطدم غالباً بضرورات «الردع» التي تراها بعض القوى ضرورية لمواجهة تهديدات خارجية محتملة، وفي ظل هذا المشهد، يبدو الحديث عن نزع السلاح وكأنه محاولة للمشي في حقل ألغام؛ حيث يتطلب الأمر توازناً دقيقاً يضمن للدولة سيادتها دون أن يجعلها تبدو وكأنها تتخلى عن أوراق قوتها في بيئة إقليمية مضطربة وغير مستقرة.
معضلة الاقتصاد السياسي للسلاح خلف الســتار الأيــــديولوجي والسياسي، يكمن بُعد آخر لا يقل أهمية، وهو «الاقتصاد السياسي» للسلاح، لقد تحولت بعض القوى المسلحة بمرور الوقت إلى كيانات لها مصالح اقتصادية ونفوذ في مفاصل الدولة، مما يجعل من عملية التخلي عن السلاح بمثابة تخلٍ عن مراكز القوة والتمويل، إن هذا الارتباط الوثيق بين القوة العسكرية والمكاسب الاقتصادية يعقد من مهمة الحكومة، إذ يتحول السلاح هنا إلى وسيلة حماية للمصالح، وليس فقط أداة للدفاع عن المبادئ، ومن هنا، فإن أي استراتيجية وطنية ناجحة يجب أن تتضمن مسارات بديلة لاستيعاب المقاتلين في الحياة المدنية أو في أجهزة الدولة المهنية، وضمان عدم تضرر الفئات التي تجد في السلاح مصدر رزق أو انتماء اجتماعي، وهي عملية تتطلب موارد مالية ضخمة وإرادة سياسية صلبة.
السيادة بين المفهوم النظري والتطبيق الواقعي تؤكد الحكومة العراقية مراراً على مبدأ «حصر السلاح بيد الدولة»، وهو شعار يلقى قبولاً واسعاً من الناحية النظرية، لكن تطبيقه يواجه «فيتو» غير معلن، السيادة في المفهوم الحديث تعني احتكار الدولة للعنف المشروع، ولكن في الحالة العراقية، يبدو العنف «موزعاً» بين أطراف متعددة، لكل منها مبرراته الخاصة، إن الانتقال من حالة «تعدد مراكز القوة» إلى «مركزية الدولة» يحتاج إلى حوار وطني شامل لا يقصي أحداً، حوار يفكك الهواجس الأمنية للمكونات والقوى السياسية، ويقنع الجميع بأن الدولة القوية هي الضامن الوحيد لمستقبلهم، وليست طرفاً ضدهم، هذا التحول الفكري هو التحدي الأكبر، إذ يتطلب تغيير العقيدة الأمنية من «الدفاع عن الطائفة أو الحزب» إلى «الدفاع عن الوطن» تحت راية واحدة.
هل من مخرج؟ يبدو أن ملف نزع سلاح الفصائل في العراق لن يحل بقرار فوقي أو بصدام عسكري، بل هو مخاض طويل من الـــــــبناء المؤسساتي والسياسي، إن الهدوء الذي تنشده القوى السياسية حالياً قد يمثل «فرصة ذهبية» للشروع في خطوات فنية هادئة، بعيداً عن ضجيج الإعلام، تبدأ بدمج حقيقي للمقاتلين، وتمر بتنظيم المخازن والأسلحة الثقيلـــة، وتنتهي بتعـــــزيز قدرات الجيش والشرطة لتكون هي القوة الوحيدة القادرة على فرض القانون، إن العراق اليوم يقف على أعتاب مرحلة تتطلب الحكمة أكثر من القوة، فبناء الدولة هو عملية تراكمية، تبدأ من استـــعادة الثقة في المؤسسات، وتنتهـــي بأن يكون السلاح زينة للدولة وليس عبئاً عليها، إنها رحلة البحث عن «الاستقـــــرار الدائم» في بلاد لم تعرف الهدوء الطويل منذ عقود، وهي رحلة تستحـــــق العناء من أجل أجـــيال تطمح لرؤية وطن يحكمه القانون وتصــــونه سيادة حقيقية غير مجزأة.
|