قاسم الغراوي في مقولة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: «من طلب الولاية لا يُولّى» تكمن واحدة من أعمق الرؤى الأخلاقية والسياسية في التراث الإسلامي، وهي رؤية تتجاوز زمنها لتلامس جوهر أزمة القيادة في كل عصر. أولًا: المقاصد والدروس المستفادة من قول الإمام علي 1-الزهد في المنصب شرط للنزاهة الإمام علي يرى أن السعي الحثيث نحو المنصب يكشف غالباً عن ميلٍ إلى السلطة أكثر من ميلٍ إلى الخدمة. فالشخص الذي يلهث وراء الولاية قد يكون مدفوعاً بالرغبة في النفوذ أو الامتيازات، وليس بدافع الواجب الأخلاقي. 2-القائد الحقيقي يُطلب ولا يطلب هذه الفكرة جوهرية في فلسفة الإمام علي: القائد الحق يُدعى إلى المنصب نتيجة ثقة الناس به. ولا يسعى هو إليه لأن عينه على المسؤولية لا السلطة. وهذا ما نراه في موقف الإمام علي نفسه من الخلافة: لم يطلبها، ولكنه قُدّم لها، ولما ألحّ الناس عليه قبلها حفاظاً على وحدة الأمة. 3-المنصب تكليف وليس تشريفاً الإمام علي كان يرى الحكم عبئاً ثقيلاً، ولهذا قال: «والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت». القائد الزاهد يدرك أن المنصب محاسبة ومسؤولية أمام الله والناس، وليس وجاهة اجتماعية. 4-الطموح غير المنضبط قد يفسد الروح ليس كل طموح مذموماً، ولكن: الطموح إلى المنصب دون أسس أخلاقية يؤدي إلى الاستبداد والفساد.بينما الطموح إلى الإصلاح هو المحمود عند الإمام علي. 5-خطورة من يتشبث بالسلطة الإمام علي يشير ضمناً إلى أن من يطلب المنصب بإلحاح غالباً: يضخم ذاته، ولا يرى إلا مصالحه. وقد يبرر الوسيلة مهما كانت نتائجها ولهذا ؛ يصبح غير مؤتمن على مصالح الناس. ثانياً: لماذا يسعى الأغلبية إلى المناصب بينما يزهد فيها البعض؟ 1- من يسعون للمناصب غالباً ما يكون الدافع واحداً أو مزيجاً من: الرغبة في النفوذ والسلطة وتحقيق مكاسب مادية.والوصول إلى المكانة الاجتماعية. اضافة التأثير السياسي ولو على حساب المصلحة العامة. والهروب من الفراغ أو الشعور بالنقص عبر منصب يملأ الذات بالوجاهة. وهؤلاء – في حديث الإمام – لا يتصفون بالعدل غالباً، لأن القائد حين يدخل المنصب بنية خاطئة يفسده المنصب مهما كانت خبرته. 2-من يزهدون في المناصب: هؤلاء عادة يمتلكون صفات استثنائية: نزاهة عالية تجعلهم يخافون من أن يظلموا أحداً بغير علم.ووعي بمسؤولية المنصب وثقله. كذلك إدراك أن المنصب يُحاسب عليه صاحبه يوم القيامة،ولهم القدرة على تقديم مصلحة الناس فوق الذات. كذلك استغناء داخلي يمنعهم من التعلق بالمكاسب الدنيوية ؛ هؤلاء هم الأقرب لروح مقولة الإمام علي، والأقدر على حمل الأمانة لو كُلّفوا بها. ثالثاً: التحليل الفكري والسياسي للمقولة 1-رؤية مبكرة لعلم القيادة والأخلاق السياسية فالإمام علي وضع قاعدة تتوافق مع ما يقوله علم القيادة المعاصر: منها القائد الذي يسعى للسلطة يقود بدافع السيطرة،بينما القائد الذي يُدعى إليها يقود بدافع الخدمة (Servant Leadership). 2-تحصين المجتمع من الطغيان هذه القاعدة تمنع وصول: أصحاب الأهواء، وطالبي النفوذ،والباحثين عن الامتيازات إلى مفاصل الدولة، وبالتالي تحمي الناس من ظلمهم. 3-نقد لثقافة التنافس غير الأخلاقي في المجتمعات التي تتحول فيها المناصب إلى غنائم: يكثر الساعون للمنصب،ويقلّ الزاهدون، ويضعف الأداء الحكومي ويتفاقم الفساد، كأن الإمام علي يحذّر: حين يصبح المنصب هدفاً بذاته، تضيع القيم، ويضيع الناس. 4-دعوة لبناء نظام يستقطب الكفاءات لا الطامعين . المقولة ليست مجرد حكمة، بل قاعدة لإدارة الدولة فاجعلوا المناصب تُمنح للكفء النزيه ، لا لمن يكثر المطالبة والضجيج. مقولة الإمام علي ليست جملة عابرة، بل: رؤية أخلاقية،وقاعدة إدارية،وفلسفة في الحكم، وتحذير من طلاب المناصب الذين يجعلون السلطة غاية لا وسيلة. أما الزاهدون في المناصب فهم أندر، لأن: النزاهة عملة نادرة، والسلطة مغرية، والإنسان بطبعه ميّال إلى التملك. ولهذا كان الإمام علي يقول: «إنّما هي أمانة، ومن طلبها وُكّل إليها» أي يُترك وحده، بلا عناية من الله، فيسقط. السؤال : على من تنطـــــبق هذه المواصــــــفات من رجال السياسة في العراق ؟ |