الدكتور ليث شبر أكتب هذا المقال وأعلم أنني سأصدمك لأنك تظن أنك ابن هذه الأرض بينما ما نفعله وما لانفعله مع الطبيعة يشير على أقل تقدير إلى الشك في ذلك فحين ننظر إلى الكائنات جميعًا على سطح الأرض، نراها قد انسجمت مع بيئتها في دورةٍ واحدة: النبات ينمو ويتنفس ويمنح الأكسجين، والحيوان يأكل ويُؤكل في سلسلة غذائية متوازنة، حتى أصغر الكائنات الدقيقة لها دور في صيانة الحياة. بينما وحده الإنسان خرج عن هذا النسق والسياق . لم يرضَ أن يكون خيطًا في نسيج متناغم ، بل أخذ يقصّه ويعيد حياكته على هواه. هذا الخروج عن النسق ليس مجرد سلوك، بل هو إشارة إلى أصل غريب، وكأن الإنسان كائن أُسقط من عالم آخر ولم يجد راحته في هذا الكوكب. فاللغة، وهي تاج وجوده، لم تكن مجرد أصوات للتنبيه أو إشارات للبقاء كما عند الطيور والحيوانات. إنها بناءٌ رمزي متشابك يتجاوز الحاجة إلى التعبير عن الخوف أو الجوع. ففي اللغة والكتابة أيضا يستحضر الإنسان الذاكرة، ليرسم المستقبل، ويخلق الأسطورة، ويصوغ الفلسفة. وكأن لسانه يحمل آثارًا من حضارة سابقة على الأرض، حضارة ليست مكتوبة في التراب بل في ذاكرة كونية تسكن عقله. أما مايلبسه، فهو علامة أخرى على غربته. فبقية الكائنات تكتفي بجلودها وريشها وصوفها، تعيش كما وُجدت. بينما الإنسان وحده شعر بالبرد والحرّ والعار والاختلاف، فابتكر الملابس لا ليستر جسده فقط، بل ليمنح نفسه هوية جديدة كل مرة. وكأنما هو الكائن الذي لم يطمئن إلى جلده الأصلي، وكأن جلده المفقود ما زال ينتظره في موطن آخر. والطبخ بدوره ليس مجرد وسيلة لتحسين الطعام، بل طقس يذكّر بأن معدة الإنسان لا تنتمي تمامًا إلى طبيعة الأرض. لقد احتاج إلى النار ليحوّل الغذاء الخام إلى وجبة قابلة للهضم، وكأن جهازه الهضمي جاء من بيئة لم تعرف ثمار الأرض بهذه الهيئة. المائدة البشرية إذن ليست مجرد مكان للغذاء، بل مسرح للذاكرة الجماعية، حيث يستعيد الإنسان ما فقده من إحساس الانتماء. أيضا الشعور بالتعالي على بقية الكائنات وأننا أسمى الكائنات وأن كل مافي الأرض موجودون لخدمتنا وتحقيق ما نطمح إليه ..هذا الشعور الذي يثير بيننا أيضا كل ما خلفناه من مظالم وفساد وسفك للدماء. كل هذه العلامات وغيرها تشير إلى أن الإنسان ليس مجرد ابنٍ عاقٍّ للبيئة التي ولد فيها، بل كائن غريب يحاول باستمرار أن يصنع لنفسه موطناً وسط عالم لا يعترف به. لغته، لباسه، طعامه، حروبه، فنونه، كلها ليست سوى محاولات لتعويض نقصٍ أصلي في الانتماء. لكنه في مسعاه هذا فقد التناغم مع الطبيعة تمامًا، لم يعد جزءًا من دورتها بل صار خصمها وعدوها. لقد دمّر الغابات، سمّم الأنهار، لوّث الهواء، وأطلق الحروب التي لم تعرفها الكائنات من قبله. بهذا المعنى يمكن القول إن غربة الإنسان عن الأرض لم تعد مجرد إحساس داخلي، بل صارت حقيقة كونية تهدد استمرار وجوده نفسه. تأملوا الأرض من دون الإنسان: غابات ممتدة، أنهار صافية، كائنات تعيش وفق إيقاعها الأزلي في تناغم أبدي. وما يختفي عند غياب الإنسان ليس التوازن، بل الكائن الوحيد الذي يملك السؤال. ومع ذلك، فإن السؤال نفسه صار عبئًا؛ لأنه لم يقده إلى التناغم بل إلى الفوضى. وهكذا يبدو أن فقدان الإنسان لانسجامه مع الطبيعة ليس علامة على عظمته فحسب، بل إنذار على نهايته. ربما نحن نشهد حقبة أخيرة لكائن غريب، جاء من المجهول، عاش خارج النسق، والآن يدفع ثمن اغترابه. وربما لم يُخلق الإنسان ليكون ابن الأرض، بل ليكون جرحها وذاكرتها… قبل أن تغلق عليه الباب وتكمل دورتها من دونه. |