محمد عبد الجبار الشبوط مقدمة: لطالما شكّلت عقيدة المهدي المنتظر جزءًا مركزيًا في الوجدان الإسلامي، خصوصًا لدى المسلمين الشيعة، حيث يُعتقد بظهور مصلح إلهي في آخر الزمان يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا. لكن، مع تطور الفكر الإنساني وتوسع أدوات التحليل الحضاري، يمكن إعادة قراءة هذه العقيدة ضمن إطار أوسع يربط بين مسيرة تطور البشرية، وضروراتها الأخلاقية والاجتماعية، وما يُنتظر من ذلك “الظهور” كحلقة مفصلية في المسار التاريخي نحو تحقيق المجتمع المعصوم. تطور البشرية كمقدمة شرطية للظهور في هذا الفهم، لا يُنظر إلى ظهور الإمام المهدي باعتباره حدثًا معلقًا في الفراغ الزمني، يُفرض على البشرية بغض النظر عن حالها، بل يُفهم على أنه استجابة لحالة نضج جماعي تصل إليها الإنسانية عبر تراكم الخبرات، ووعيها المتزايد بقيم العدل، والحرية، والكرامة، والسلام. في هذا السياق، يصبح الظهور ليس حدثًا ميكانيكيًا بل نتيجة لحاجة موضوعية تنشأ حين تبلغ البشرية عتبةً لا يمكنها عبورها دون تدخل نوعي يُجسده هذا المصلح. المجتمع المعصوم: الهدف الأبعد ينبثق من هذا الظهور مشروع حضاري يتجه بالبشرية نحو تشكيل المجتمع المعصوم، لا بمعنى عصمة الأفراد عن الخطأ، بل بمعنى بناء نظام اجتماعي-أخلاقي قادر على تقليص فرص الانحراف إلى أدنى حد، من خلال استناده إلى القيم الكونية العليا، واستخدام العلم والتكنولوجيا لأغراض خيّرة، وقيام نظام سياسي-اجتماعي عادل وشامل. المجتمع المعصوم هو ذروة المشروع الحضاري الإنساني، حيث تتصالح الفطرة مع الواقع، وينسجم الإنسان مع الأرض والزمن والعلم والعمل. المهدي كمُمَثل لحاجة حضارية في هذا التصور، المهدي ليس مجرّد شخص ينتظر لحظة غيبية للظهور، بل هو تجسيد لحاجة حضارية، يظهر حين “تستدعيه” البشرية من خلال وصولها إلى مستوى من النضج يجعلها مؤهلة لفهم مشروعه، والتفاعل معه، والدخول في عقد حضاري جديد. إنه ليس منقذًا يفرض نفسه على بشر لم ينضجوا بعد، بل شريك في مرحلة من تطورهم تتطلب قيادة معصومة تكمّل المسيرة. أفق زمني محدد: قبل فوات الأوان لكن هذا التطور لا يمكن أن يُترك مفتوحًا إلى ما لا نهاية. فالعلم الحديث يخبرنا بأن الشمس، مصدر الحياة على الأرض، تمر بمراحل تطورية ستصل فيها إلى تضخم كبير يجعل استمرار الحياة الأرضية مستحيلًا، كما هو متوقع خلال مئات الملايين من السنين القادمة. ورغم أن الأفق الزمني يبدو بعيدًا، إلا أن وجود “نهاية فيزيائية” محتملة للحياة على الأرض يفرض حدًا أعلى لهذا المشروع الحضاري. ولذلك، يجب أن يظهر المصلح المنتظر ويُقام المجتمع المعصوم قبل فوات الأوان الكوني. رؤية مغايرة للانتظار بهذا الفهم، تتحول عقيدة المهدي من حالة انتظار سلبي إلى مشروع شراكة تطورية بين الإنسان والسماء، بين الإرادة البشرية والمشيئة الإلهية، حيث يُصبح كل جهد بشري نحو العدالة، والعقلانية، والتكافل، خطوةً نحو تسريع الظهور، وليس مجرد انتظار قدر مجهول. هذه الرؤية تُحمّل الإنسان مسؤولية العمل، لا الركون إلى الغيب، وتفتح أفقًا حضاريًا رحبًا لفهم العقيدة المهدوية بعيدًا عن التصورات السحرية أو الانفعالية. خاتمة: ليست عقيدة المهدي مسألة فردية أو طائفية، بل هي جزء من حلم إنساني أوسع: أن يتحقق العدل على الأرض. لكن هذا الحلم لا يتحقق إلا حين تكون البشرية مستعدة له، وواعية لحاجتها إليه. عندها فقط، يصبح ظهور المهدي لحظة من لحظات النضج الكوني، خطوة في رحلة طويلة نحو المجتمع المعصوم، قبل أن تُقفل نافذة الحياة على الأرض بفعل قوانين الكون نفسه. |