تُنعش القلب تلك الصورة التي تتصافح فيها فيروز مع أم كلثوم. تشعُر بغبطةٍ داخليةٍ وأنت ترى الود الظاهر بينهما، وتتعجب في قرارة نفسك من لقاء الضدين، فقد أطلق على صوت فيروز أنه الدوام الصباحي، وصوت أم كلثوم يعرف بالطبع بالدوام المسائي فهي صوت السهارى. وفيروز هي مفتاح الصباح باختصار، وكان من الممكن أن لا أهتدي إلى صوتها لولا أن أبي كان يفتتح صباحه بها مرغماً، ولكنه لا يدير مؤشر المذياع إطلاقاً وهو يحلق ذقته أمام مرآة الحمام فيما يقبع الراديو على رف قريب من الباب لأن الراديو «حرام يدخل الحمام». وهكذا تعلمنا منذ صغرنا أن يكون هناك محرّمات، وأن يكون هناك صوت فيروز فيما ينتظر أبي انتهاء الفاصل الغنائي ليستمع إلى نشرة الأخبار، وخصوصا النشرة الجوية. أنت لا تدري كيف أصبحت فيروز مفتاح صباحك، ربما لأنك أدرت مؤشر الراديو ذات يوم إلى تردّد محطتك المفضلة، فسمعت ذلك الصوت الملائكي ينبعث منها فتوقفت. والغريب أن هذا الصوت تسمعه في كل صباح من أماكن متفرقة، والإجماع على أنه هو مفتاح الصباحات والنهارات هو الذي كتب له أن يستمر مهما اختلفت ذائقة الأجيال وتغيرت، فأنت حقا تُصدم حين تجد الشاب الذي يرتدي بنطال الجينز الممزّق الأطراف على سبيل مجاراة الموضة، وهو يستمع إلى فيروز بينما «يتشعبط» بالحافلة، متوجها إلى جامعته، أو عمله البسيط، وهو يوهم حبيبته الصغيرة بأنه رجل مهم، كيف لا وهو يفتتح صباحه بصوت فيروز الذي أجمع عليه السادة والكبار والرؤساء والزعماء واجتمعوا، والذي لم يصنّفه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بأنه صوت بشري، بل هو ترانيم تأتي من بعيد، لتغسل القلوب، بعد أن داهمتها الكوابيس والهواجس في ليل طويل.
يختلف حبّنا صوت فيروز عن أي حب، فهو يختلف عن الحب الذي أفضى إلى الزواج، لأن هذا الحب غالبا ما يتلاشى ويضمحل، حين يمعن كل طرفٍ في اكتشاف عيوب الآخر، ولكن حب صوت فيروز ما زال يحمل دهشة الاكتشاف، وأن التعود لا ينطبق عليه، إلى درجة أنك قد تكتفي به رفيقا للعمر من دون ملل. كثيرون أخبرونا عن ذلك ورحلوا راضين قانعين. وبالتأكيد، فيروز امرأة مكابرة شامخة، ووقفتها على المسرح تحكي قصة كفاح، ومحبّوها من الرجال أكثر من النساء، على الرغم من أنها غنت عن لوعتهن وشعورهن بالغبن والظلم من المحب الذي يكتب اسم الواحدة على رمل الطريق، ويهديها وردة واحدة، ولكن معظم النساء لم يحاولن أن يكن مناضلات مقاومات مثلها، وهي التي كان واردا أن تكون مجرّد زوجة منكوشة الشعر في مطبخ ضيق عابق بروائح الطبخ، وتكتسب بدانة يوما بعد يوم، حتى تجرّ قدميها بصعوبة، لو أنها استجابت لمطالب جارها العديم الذائقة، والذي اشتكى من صوت غنائها وهي صغيرة، وحاول أن يخرس هذا الصوت الساحر، ولكنها قاومت ووجدت من يقف معها ويدعمها، وخرج الصوت من المطبخ والحمام ليجوب العالم، ونشيخ نحن ولا تشيخ فيروز، وهي تكبر وتبلغ عامها الرابع والثمانين.