على رغم الانتكاسات الأخيرة، التي مني بها نموذج الوحدة الأوروبية، فإن هناك قائداً واحداً، على الأقل، يبدو أنه يؤمن بهذا النموذج بذات القوة، التي يؤمن بها المقتنعون المتحمسون بفكرة الاتحاد في بروكسل، ألا وهو الرئيس الأوكراني «بيترو بوروشينكو». ولكن مكمن المشكلة أنه ينتمي إلى نوع من المؤيدين، لا يحتاجه الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن.
ففي يوم الخميس الماضي، نشر بوروشينكو مقالاً بليغاً في صفحة الرأي للنسخة الأوروبية من صحيفة «بوليتكو» الأميركية، عبر فيه بجلاء عن موقفه، وكان من ضمن ما قاله فيه: «سواء خرجت بريطانيا أم لا، وسواء كانت هناك أزمة أم لا، فإننا سنمضي قدماً في طريقنا نحو تحقيق تكامل الاتحاد الأوروبي».
إن ما يتبادر إلى أذهاننا، عندما نقرأ هذا الكلام، هو أنه لابد أن يكون قد شد من أزر القادة الأوروبيين، وخصوصاً أن قائله هو رئيس دولة تعتبر من أكبر الدول الأوروبية (40 مليون نسمة)، وهي أيضاً دولة ما زالت محافظة على ولائها للمثل الأعلى الذي ألهم ما عرف بـ«ثورة الميدان الأوروبي» Euromaidan التي تواصلت خلال عامي 2013-2014.
وخلال هذه الثورة، احتشدت الجماهير الغفيرة على امتداد أشهر طويلة قارصة البرد في الميادين، ورفعت خلالها أعلام الاتحاد الأوروبي، وتصدت لهجمات قوات مكافحة الشغب التابعة للرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش. وامتدت إلى مدينة كييف عندما أطلقت النيران على عشرات المتظاهرين في فبراير 2014، ورأى الأوكرانيون العاديون الذين أطاحوا في نهاية المطاف بحكم يانوكوفيتش من خلالها، الاتحاد الأوروبي، بديلًا عن حضن فلاديمير بوتين، واتحاده الأوروآسيوي.
وولاء بوروشينكو الذي أعرب عنه للاتحاد الأوروبي، كان يمكن أن يكون أكثر إقناعاً وتأثيراً، لولا حقيقة أن رؤيته هذه ليست هي ما أنجزه على أرض الواقع منذ انتخابه رئيساً، بعد شهور من ثورة الميدان الأوروبي. فما زالت بلاده تعاني من تضارب المصالح، كما أنه لم يقم أيضاً ببيع مصنع الحلوى الذي يمتلكه، وكان قد وعد ببيعه، كما أن جزءاً كبيراً من المشاريع في بلاده، بات مملوكاً من قبل أصدقائه وشركائه التجاريين.
وفي الفترة الأخيرة، عدل بوروشينكو قانون استيراد السيارات الذي يسمح للأوكرانيين باستيراد سيارة واحدة من الخارج للاستعمال الخاص ولا يسمح لهم ببيعها، وذلك لفتح المجال على مصراعيه لشركة «بودجان» المحلية لصناعة السيارات، التي تعاني من التعثر، وتعتمد في استمرارها على السياسات الحمائية، والمملوك جزء كبير من أسهمها من قبل «أوليج جلادكوفيسكي» الذي يعتبر من الشركاء المقربين للغاية من الرئيس.
وخلال العامين اللذين أمضاهما بوروشينكو في الحكم، أغضبت الحكومة الأوكرانية قادة دول الاتحاد الأوروبي، بسبب عدم جديتها في استئصال شأفة الفساد، وعدم قدرتها على الالتزام بالشروط السياسية للهدنة التي تفاوضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند بشأنها، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.وأوكرانيا في الوقت الراهن، عبارة عن حزمة من المشكلات التي لا يرغب الاتحاد الأوروبي في معالجتها في المستقبل المنظور. وحتى الوعود التي كان الاتحاد قد قدمها لأوكرانيا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، سفر مواطنيها عبر دوله من دون تأشيرة، تبدو عسيرة التحقيق في الظرف الحالي الذي تحولت فيه الهجرة، إلى موضوع خلافي إلى حد كبير.وبوروشينكو يعرف كل ذلك بالطبع، ويدرك أن انضمام بلاده للاتحاد الأوروبي، لن يحدث خلال فترة رئاسته، أو ربما حتى خلال فترة خلفه أيضاً. ولكن ما فات إدراكه هو أن الخروج البريطاني «بريكسيت»، قد دفع بتوقعات بلاده بالفعل، إلى مدى أبعد في المستقبل، إلى درجة باتت معها تلك التوقعات غير جديرة بالنقاش.ولذلك فإن البراجماتية وحدها، هي السبب الذي يدعو بوروشينكو لإعلان الولاء لاتحاد، لا يريده، ولا يمكن أن يضمه إلى صفوفه. فبوروشينكو يدعو قادة أوروبا لتوحيد الصفوف، والدفع باتجاه المزيد من الوحدة، لأنه يخشى أن يؤدي اختلاف تلك الدول وشقاقها، إلى تركه وحيداً في مواجهة بوتين. والسؤال هنا: إذا كانت ميركل وأولاند منشغلين على النحو الذي هما عليه في الوقت الراهن، بتوابع الخروج البريطاني، فهل ستكون لديهما القدرة على إلزام بوتين بالوفاء بتعهداته التي قطعها على نفسه بموجب «اتفاق مينسك» الذي نتج عنه تجميد الصراع في شرق أوكرانيا؟ وهل الجبهة الأوروبية الموحدة بشأن العقوبات على روسيا، ستظل قادرة على المحافظة على تماسكها؟ وهل ستفضل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كلاً على حدة، خيار إعادة تأسيس العلاقات مع روسيا عندما يصبح ذلك الاتحاد أقل استقراراً؟إن مثل هذا السيناريو الأخير تحديداً سيكون كارثياً بالنسبة لبوروشينكو، الذي لم يحسن عملية إقناع الأوروبيين بأوروبية بلاده. فالحكومات الأوكرانية التي تولت زمام الأمور بعد ثورة الميدان، فشلت على نحو واضح في تحويل طموحات بلادها الأوروبية إلى واقع ملموس. وبوروشينكو، في رأيي، يستطيع أن يفعل المزيد من أجل طموحات بلاده الأوروبية، من خلال تقليد النماذج والصفات التي يدعي الإعجاب بها، وإن كان ذلك لا يعني، أن طموحاته هو ذاتها يجب التخلي عنها بالضرورة.فالاتحاد الأوروبي ما زال يمتلك الموارد الكافية لمساعدة أوكرانيا من خلال ضخ الاستثمارات، والنصائح، والتبادلات التعليمية والثقافية. ولذلك يجب على الاتحاد الأوروبي ألا ينسى أوكرانيا، حتى لو كانت مشكلاتها أقل أهمية بالنسبة له من مشكلاته الخاصة.