قراءة سفيان صلاح هلال
يتميز الشعر عن غيره من دروب الإبداع بالكلمة أنه فن تختلط فيه الرؤيا الجمالية بالرؤيا الإنسانية ...والواقع الشعري علي امتداد التاريخ يقول :إن هناك من دخلوا عالم الشعر من باب امتلاكهم للأدوات الشعريةمن سيطرة على الإيقاع وبلاغة في استخدام اللغة..وهناك من دخلوا من باب التجربة الصادقة وتلقائية التعبير..أما شعراؤنا الكبار فغالبا هم من اجتمعت لديهم هذه وتلك فضلا عن اختلاط تجاربهم بمحيطهم العام مما يكسب نصهم تلألؤا يستقي من أشعته الجميع.. وكثيرا ما سألت نفسي مالذي يجعل شاعرًا كبيرًا مثل المتنبي.يمدح سيف الدولة من قلبه ،ويمدح كا فور على مضض،ثم يهجوه من قلبه..مالداعي لبداية الشاعر الجاهلي برثاءالأطلال؟ أو تقديم أبوذؤيب مرثيته بمشاهد مطاردة بين حيوانات ؟من أيِّ نبع تفجر قول حافظ :( أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألف يرزق الأموات! من لى بحظ النائـمين بحفرة قامت على أحجارها الصلوات يسعى الأنام لها،ويجرى حولها بحر النذور ،وتقرأ الآيات!) أظن أنه الالتفات الذي يجعل الشاعر يخرج بتجربته من انطوائها على ذاتها لتتفاعل مع ما يحيط بها من وجود.. فتتحول من رؤية شخصية إلى رؤيا ترى الجمال في الجميل..والقبح في القبيح. وشاعرنا أشرف قاسم في ديوانه ( شفاهك آخر ترنيمة للحياة) أظنه هذا الشاعرالذي اجتمعت له أجنحة الشعر من عمق في التجربة ..وفيض من الجمال التعبيري.. مع تفاعل إيجابي أخاذ مع محيطه ..فحلق بنا في ديوان فيه قصائد ذات نسيج جميل . بداية حاولت أن افصل بين ما هو جميل وبليغ من باب الالتفات..وما هو هكذا من باب الامتزاج..فصعب هذا...فتبادل انعكاس ما هو خارجي علي صفحة الشاعر.. وما هو داخل الشاعر علي محيطه يكاد يظلل كل الديوان..وهذا يعطينا رؤية الشاعر الذي يري الوجود وحدة مبنيةعن فلسفة واحدة يتأثر فيها الفرد بما حوله كما يتأثر فيها ما حوله به (للنهر- سيدتي- أنينُ النَّايِ /للقلبِ النشيجُ ! /وليَ انكسارُ النظرة الخرساء/والصمتُ / الضجيجُ هذا دمي فوق الموائدِمُهرَقٌ /وحدائقي لا زهْرَ فتَّحَ في خمائلها/ولا انتشر الأريجُ !! والحزنُ سِربُ سنابكٍ /تخِزُ الفؤادَ فلا ربيعُكِ أزهرت أغصانُه- تلك التي شربت دماء الذَّائبين محبةً منا – ولا عاد الصباحُ على مشارفِنا يموجُ !! أننا لو دققنا القراءة في الفقرة السابقة باكثر من طريقة ..فإن القراءة الأولي يمكن أن نبدأها بالتفات الشاعرللنهرفي مفتتح النص(للنهر- سيدتي- أنينُ النَّايِ) ثم الحديث عن نفسه في الجملة الثانية مباشرة(للقلبِ النشيجُ )ومن المعروف أن صوت الناي والشجن متلازمان)..ثم ينتقل إلي السيدة التي يخاطبها في رشاقة قائلا(فلا ربيعُكِ أزهرت أغصانُه - تلك التي شربت دماءَ العاشقين) والتي كان قد سبقها بقوله(هذا دمي فوق الموائدِمُهرَقٌ /وحدائقي لا زهْرَ فتَّحَ في خمائلها)..إنها حركة باللغة تشبه العزف بأصابع البيانو من نغمة إلي نغمة في مقطوعة واحدة فالشاعر عاشق وإلّمْ يصف نفسه بذلك ولكن ذلك نفهمه من التوحد بين حال دمه المراق وحال الحدائق المقفرة رغم شربها دماء العاشقين.. وهو ممن سال دمهم أنها بلاغة الإيحاء بلا تصريح..والعزف بعدة أصوات بلانشاذ..نعود للفقرة مرة ثانية بقراءة ثانية من خلال المفردات..إننا لو حاولنا رسم لوحة مستعينين بالكلمات التي استخدمها الشاعر في سياقاتها..سنرسم نهرًا يعزف عزفًا حزينًا.. وسيدة في حديقة مقفرة رغم الدماء التي ترويها..وقلب باكٍ بسقي بدمه أشجارًا جرداء.. وظلام طويل ينتظر فيه الجميع صباحا لا يجيء مما يمنحنا لوحة تتعدد فيها الأشياء وتتوحد فيها الحالة ..مما يدل علي ما ذكرنا سابقًا وحدة الوجود وتبادل الحالة القائمة في رؤياالشاعر.وبهذه الرؤية نجد الدراما مسيطرةعلى بناء النصوص ..يعمّقها الشاعر بالتفاته وامتزاجه ليس مع الحاضر فقط..بل بغوص بها في أعماق الماضي بموروثه( وليَ المسافةُبين حُلمي وافتراشِ دمي على رمل الطريقِ وحَفْـنـةٌ مِن حنطة بقيت لِعامِ مجاعةٍ وأنا ويوسف دمعتان وحيدتانِ ووجهُ يعقوب الحزينِ ) ثم يحلق بها إلى آفاق المستقبل مخاطبا ابنته (هذي بلادُكِ يا ابنتي –تُهدي إليكِ سلامَهافي “ قالبِ الحلوى “وفي “ كوبِ اللَّبنْ “ ! أدِّي التحيَّةَللِشهيدِفإنه ضحَّى لِكي نحيا غداً). وإذا كان الامتزاج يتجلى توحدًا شعوريًا في عموم الديوان ,,فإن الالتفات والامتزاج يمكن رصدهم دلاليًا في جوانب شتى 1) العناوين.. يحتوي الديوان ستة وعشرين عنوانًا..النسبة الغالبة فيها موجهة للغير..أو مهداه لأشخاص حقيقين.. أو افتراضيين هم أبطال أعمال فنية..ومعظمها ملتصق بضمير المخاطب سواء كان حاضرًا أوغائبًامثل هذي بلادكِ يا ابنتي/ شفاهكِ آخر ترنيمةٍ للحياة/ هــي/ انتَ نور هداك/ تداخلتِ بيني وبين انكساري/ قد جلستَ بظلِّ حُزنِك .. / أو عناوين هي أسماء أعمال أو أفراد مثل أسماء ..أُنس. يوسفيات.مجلس القمري.. إن عنوانين فقط التصقا بضمير المتكلم الشاعر/ سُكنايَ في بُرجِ الضجيج/ بيني وبين الله جسرُ مودَّة ..المهم إن هذا إن دل فيدل علي شدة اهتمام الشاعر بالآخر واعتباره جزءاً من حياته يُوليه من تجربته أضعاف ما يمنح نفسه 2)كثرة التنقل وتوسيع مساحة التجربة (/أتعبَتْكِ البلادُ/تَبَدَّلَ وجهُ الزمانِ/سنينٌ عِجافٌ/وسربُ الجرادِيساومُ حوْصَلَةَ السُّنْبُلةْ ! أنرحلُ ؟رغمَ الحنينِ الذي في الضلوعِ وخوفِ التَّرَقُّبِ ؟ نبحثُ عن وطنٍ يصطفينا ؟ ونتركُ هذي السفينة تغرق في لُـجَـجِ الزَّلْزَلةْ ؟)في الفقرة السابقةيبدأالشاعر بضمير المفرد أتعبَتْكِ البلادُ..ثم ينتقل بسرعة لرصد حال الزمان..وفجأة يسقط جملة رمزية.. المعادل الموضوعي فيها يعبر عن الصراع بين الجراد(الكائن الحي) والمحصول (أحد أسباب الحياة الاولية)..وينتقل بنا فجأة إلي الكلام بصيغة الحاضر الجمع.. نبحث..يصطفينا..نغرق..وهذا يدل علي اتساع مساحة اهتمام الشاعر وإسقاط العوالم علي عوالم أخري فمن ضيق الحياة على البشر الي ضيق الحياة علي الحشرات..الي انعكاس هذه الأحوال علي الجميع وهذا يؤكد مرة اخرى رؤيا الشاعر في وحدة الوجود 3)الحرص علي الرصد الموازي في أكثر من نص يتفاعل الشاعر ملتفتًا وممتزجًا بنصوص إبداعبة أخرى..يرى فيها تأكيدًا لرؤيته مثل(شفاهكِ آخرُ ترنيمةٍ للحياة إلى ( وفاء بغدادي) من وحي روايتها ( الموتى لا يرتدون الأحذية) و أُنْــس إلى الكاتبة المبدعة( عزة دياب )على لسان ( أُنْـس ) بطلة روايتها( وردة النيل) .و مجلسُ القمَري إلى الصديق الروائي محمد عبد الحكم حسن من وحي روايته(مجلس القمري) 4)الاستدعاء.. كثيرا ما يستدعي الشاعر حكايا أو مشاهد تراثيةلإسقاطهاعلي تجربته المعاشة كدلالة رمزية مثل(و مُؤَذِّنُ الملكِ الذي دسَّ الصُّواعَ لنا بِليْـلٍ في ثنيَّاتِ الرِّكـابِ ! “ سقطَ النصيفُ “ و بان وجهُ الزَّيْفِ مِن خلف الحجاب) أظن أن مُؤَذِّنُ الملكِ الذي يقصده الشاعر ليس ذلك الذي دس لإخوة يوسف صواع الملك ليتخذه رهينة..لكنه الإعلام الحديث الذي بستخدم لتوجيه الجماهير بعيدًا عن الحقائق..عملا لمصلحة الحاكم لا لمصلحة الشعوب وفي نص طويل اسمه يوسفيات..يخلط الشاعر الأوراق كلهافيقول في مقطوعة(صاحبت دانتي والمعرى وارتقيت بروحهم نحو الصفاء وقرأت في ليل التوجس : “ قل هو الله أحد “فنهلت من نهر الضياء وأتيت للزمن الذي فيه الأماني تحترقْ وبه النقاء بضاعة مغشوشة وبه اللقاء علامة أنا – قريبا - نفترقْ وأنا.. ويوسف .. والظلام وأخوتي عادوا وقالوا:يا أبى” أنا ذهبنا نستبقْ “) والحق أنه لا علاقة زمنيةأو مكانية تربط هؤلا ..أو تربطه بالشاعر..غير التفاته إليهم وتوحده معهم في التجربة الإنسانية..والديوان يفيض بهذه الأمثلة التي جعلتني أقرأ هذا الديوان مستمتعا بعزف شاعرنا بجمله الشعرية الراقصة في غنائية بسيطة وكلمات دالة علي شاعر عميق الرؤيا واسع الاطلاع مالك لناصية الفن الشعري يوظف كل هذا لخدمة تجربة فنية إنسانية صافية ومهتمة. |