التانكا إرث أدبي ياباني، يختزل المعاني العميقة بصورٍ مستمدةٍ من الطبيعة، بدأ العشاق في كتابته كرسائل سرية على شكل ومضةٍ لا تتعدى خمسة سطور، ثلاثة سطورٍ قصيرة يليهما سطرين طويلين والسطر الثالث يربط الصورة في السطرين السابقين بالصورة في السطرين اللاحقين وتقسم المقاطع الصوتية فيه على شكل 5-7-5-7-7، يقضي المحبوبين الليل في كتابة الرسالة الواحدة تلو الأخرى أخذاً ورداً، يحاول أن يكتب العاشق ما يخالجه و يفضي للغموض في تعبيراته ولكن المعشوق “المُخاطب” يفهم رسالته، حتى صار مضماراً شعرياً يتنافس فيه الرجال والنساء، في المقابل كان رهبان المعابد الذين يتبنون فلسفة “الزّن البوذية” يكتبون الهايكو بإخراج اللحظة عن آنيتها المؤقتة وصنع الانسجام بين عناصر مألوفة لرسم صورة غير مألوفة، وقد كان على شكل ثلاثة سطور كثيفة المعنى والصورة تُكتب على شكل مقاطع صوتية 5-7-5. يُعتبر الهايكو أكثر وضوحاً من التانكا لأنه يعتمد على اللفظ العفوي المجرد من الزخرفة ولا يُفضي لإرباك المعنى بسورياليته، وقد انتقل هذا الإرث لأميركا وأوربا، ولم يدخل إلى عالمنا العربي إلا بعد عملية تقنين تم تشويهها ببعض الترجمات التي حُذفت منها علامات الترقيم وهي في الأصل تُشكل جزءاً مهماً من المقاطع الصوتية لكتابته..
بشكلٍ عام، من الصعب التوحد مع ذوات الأشياء والنباتات والطيور باعتبارها جزءاً من الطبيعة المكونة للصورة الشعرية، وخاصة مع الحروب التي تشغل الوطن العربي وتشطر ذات الفرد وتغربلها لينشغل بتأمين لقمة العيش وخاصة أنه واقع عليه التعايش معه وموازنته وموهبة الكتابة في مجالاتها المختلفة، وبرغم ذلك سنجد أسماءً لهايكست أتقنوا هذا النوع من الأدب في عالمنا العربي ولم ينحز أصحابها للتقليد وإنما ابتكروا لها أفكاراً أخرى بجانب التعبير عن الذات الواحدة والتأمل بها على صعيد جمعي كالقيم الإنسانية..
د. معاشو قرور من الجزائر، باحث وشاعر الهايكو في وقتنا الحاضر، يمزج التانكا بالهايكو ليمنحنا فرصة التمعن بالسيرة الشعرية التي أسس لها في كتابه “هايكو اللقلق” الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع..
تتكون مجموعته من اثني عشر نصاً من قصائد التانكا كأبواب للمائة وثمان هايكو، تحاكي سيرة الطائر بتفاصيل مشهدية تلتحم فيها الطبيعة مع تأملات الإنسان لتكشف عن ذلك التناغم الروحي بين العقل والجسد وبين الفكرة والصورة، وبين المادي والمحسوس..
يوظف التشخيص بشكل أساسي، مما يسهم في رؤية الأشياء والتغلغل في لبها والسكن فيها لتفسير قيمتها الوجودية بصورة فنية دلالية تشير لحياة الإنسان الفانية وهو يسابق الوقت ولا يبارح مكانه في دولابه إن هو لم يستمتع بملاحظة كل ما يحيطه..المتذوق لفن الهايكو يلاحظ القيم الجمالية التي يشتغل عليها د.معاشو، موضحاً إن أدق التفاصيل التي يمر عنها الفرد يومياً دون الانتباه لها، هي نفسها التي تلون حياته ويحزن على خسارتها ويندم على أنه لم يلتقطها حين تنتهي دورة حياتها أو يتم تدميرها، وهي نفسها التي يريد أن يتملكها وهي أمامه في مكانها الصحيح تسهم في هدوئه وتلُبسه ثوب الأمن لو أنه لا يطمع فيها..
لغة الهايكو في المجموعة سلسة ومتسلسلة تصور حياة الفرد الذي يشبه اللقلق، الذي يستبشر به البعض، كما أن اللقلق يتميز بعينيه اللتين تساعدانه في الرؤية أثناء الطيران، وفي ذلك إشارة ربما لتلك التفاصيل التي يكتبها الهايكست من خلال ملاحظته ومتابعته لها..
الكتاب يسحرك بدقة الوصف أيها القارئ، فالإهداء عبارة عن ومضة شعرية ، ومفتتاحات الكتاب بمقطع لأبي حيان التوحيدي والآخر لابن رشيق القيرواني تغوص بك في كنه الحرف وتأملاته، فتأتيك الرسومات الرمزية والخط العربي في بداية كل قصيدة تانكا وكأنها لغة خاصة فكت شيفرتها بكتابة الهايكو..
هذه بعض مقاطع الهايكو من الكتاب كما وُردت بأرقامها:
2
تحت بساط العتبة-
ينعم بالدفء مع الصرصار،
مفتاح الباب.
3
لأخت يوشع
من حانوتٍ زجاجيٍ،
يوشوش طراد الشمس.
4
إرباً إرباً-
تُقطِّع تلك الشجرة،
على الدرابزين تصافحنا.