سعيد ناشيد اللغة مأوى الوجود، هكذا يقول هيدغر. وفي ترجمة أخرى، اللغة مسكن الكينونة. وربّما هناك ترجمة ثالثة تقول، اللغة بيت الذات. طيب، إذا كانت اللغة بهذا النحو، إذا كان الإنسان من حيث هو وعي وكينونة لا يقيم إلاّ داخل اللغة، فالجدير بالملاحظة أن هناك مفارقة صارخة في علاقتنا نحن العرب بمسكننا اللغوي، اللغة العربية. إذ يتراءى للنّاظر الحصيف كأنّنا نسكن داخل مأوى لا يشبه وجودنا في أي شيء، بل كأننا نسكن خارج اللغة التي نتكلم بها. الوجه الآخر للمفارقة أننا لا نكف عن الزّعم بأننا أمة انحدرت من لسانها ولغتها ولا أصل لها غير هذا. إلا أن لغتنا في واقع الأمر لا تشبهنا بأي شكل من الأشكال، ولا نشبهها في أي وجه من الوجوه. الأمثلة كثيرة والأدلة وفيرة وهذه بعضها: لغتنا غنية بمعاني الحب وأحواله، ومراتب العشق وأنواعه، وتختلف المراتب والأحوال باختلاف درجة الحدّة ومستوى الشدّة وطول المدّة، بحيث يدل كل لفظ على حالة محدّدة من أحوال الحب، يتعذر إحصاؤها بيد أنها تعدّ بالعشرات: الشغف، والهوى، والود، والكلف، والعشق، والصبابة، والجوى، والتيم، والوجد، والوله، والتبل، والتدله، والغرام، والهيام، ونحو ذلك مما يصعب حصره. والأدهى من كل هذا أن ثمة أسماء دالة على مراتب الجنون الناجم عن العشق، وهي لا تحمل أي معنى قدحي، بل تحيل تحديدا إلى دراما الحب بمعناها الأدبي. لكن المستغرب والمثير للحيرة أننا رغم كل هذا الثراء اللغوي “الفاحش” في معاني الحب وأحواله ومراتبه ومآلاته، إلا أننا نعتبر البوح به نقيصة من النقائص، بل كبيرة من الكبائر، بل فضيحة نكراء لا يليق إظهارها ولا يجوز إشهارها؛ فالحب في المرأة فسق وفجور، وفي الرجل ضعف وفتور، وفي الجماعة فساد وشرور. والمفارقة الأخرى والكبرى أننا نكتم الحب ونشيع الحرب، بلا خجل ولا وجل. مسألة أخرى، بل لعلها في الصميم: لغتنا تتضمن إيقاعا موسيقيا فريدا ترسمه حروف المد، ويتحكم في تحديد معاني الألفاظ ودلالات الكلمات. فالفرق بين كلمة “فتى” وكلمة “فات” يتعلق قبل كل شيء بالإيقاع الموسيقي لكل كلمة تبعا لحروف المد داخلها؛ وكذلك الفرق بين “متى” و”مات”، بين “عابر” وعبير” إلخ. فالإيقاع الموسيقي للكلمات في لغتنا يظل حاسما في تحديد المعاني والدلالات. رغم هذا -وهنا المفارقة- رغم هذه السمة الموسيقية التي تطبع لغتنا، إلا أننا لا نكف منذ أزيد من عشرة قرون عن السؤال، هل الموسيقى حرام أم حلال؟ المؤكد مرة أخرى أننا لا نشبه لغتنا، وأن لغتنا لا تشبهنا في شيء، ما يجعل السؤال مبرّرا: هل تنطبق مقولة هيدغر “اللغة مأوى الوجود” علينا نحن العرب أم أننا استثناء؟ من باب التواضع علينا أن نقول، قد لا يكشف السؤال بالضرورة عن حدود هيدغر، لكنه يكشف على الأرجح عن بعض أعطابنا. |