كاظم فنجان الحمامي
لا يختلف أثنان في عموم مؤسساتنا البحرية، على إننا أول من فكر بكتابة مسودة السلطة البحرية العراقية، وأول من طالب بها تحت قبة البرلمان، وتحت قبة مجلس محافظة البصرة، وأول من تحدث عن أهميتها في المؤتمرات المحلية، وعن دورها المصيري في تحديد خطواتنا المستقبلية بالاتجاه الصحيح، وكنت في غاية الدقة والحذر عندما أكدت في مسودتي على أن يكون مقرها البصرة وليس بغداد، على اعتبار إن البصرة هي المحافظة الوحيدة التي تمتلك إطلالة ملاحية على بحار الله الواسعة، وهي التي تحتضن الشركات البحرية المحلية والعربية والعالمية، سيما إن السلطات البحرية الأخرى في عموم كوكب الأرض تمركزت في واجهاتها الساحلية ومنافذ المينائية، حتى تكون على تماس مباشر مع مراكزها ومحاورها وأنشطتها. لكننا فوجئنا ببعض الأصوات الببغائية، التي انطلقت للأسف الشديد من البصرة لتجنح بسفننا بالاتجاه المعاكس، وتبدي عدم اعتراضها على وضع اللبنة الأولى للسلطة البحرية في بغداد، وربما في المنطقة الخضراء، فالعاملون في البحر، على اختلاف درجاتهم وتخصصاتهم وتوجهاتهم، والمدركون لاحتياجاتنا المستقبلية لن ينساقوا وراء ظاهرة البغددة البحرية، ولا وراء ظاهرة التبغدد. تجدر الإشارة إننا نتحدث هنا بلسان بحري فصيح، ولا علاقة لنا بصيحات المطالبة بإقليم البصرة، فنحن لسنا معها ولا ضدها. ولا شأن لنا بهذا الموضوع جملة وتفصيلا، لكننا نناقش مستلزمات نهوضنا بسلطتنا البحرية من النواحي المهنية والإدارية البحتة. فالذين يحاولون الآن تغيير بوصلتها أما أن يكونوا أغبياء، أو لا عقل لهم، أو إنهم سائرون على المسالك القديمة الوعرة، التي ارتكبت الحماقات المتكررة، ثم انحدرت بنا نحو المنزلقات الخطرة، حتى جاء اليوم الذي خرجنا فيه - غير مأسوف علينا - من القائمة البحرية البيضاء، ووضعتنا العقول المعطوبة في قعر القائمة البحرية السوداء. لا خلاف على خصائص المحافظات ومزاياها الأخرى، عندنا في العراق محافظات زراعية، وأخرى سياحية وجبلية وصحراوية، فالبصرة (مثلا) جسر العالم القديم. ترتبط بالقارات الثلاث، وتلتقي عندها خطوط الشحن البحري والجوي والبري، وكانت موانئها في بداية القرن العشرين هي التي تتحكم بإدارة مطار البصرة، وهي التي تتحكم بتحركات القاطرات البخارية المتخصصة بنقل البضائع المصدرة والمستوردة، وهي التي تستوفي الأجور والعوائد والرسوم الجمركية والضريبية المرتبطة ببوليصات الشحن البحرية. كان بيان سير السفن في المياه الداخلية لسنة 1919 هو القانون الذي استمدت منه (مصلحة الموانئ وقتذاك) سلطتها البحرية، بمعنى إن موانئنا في صورتها القديمة كانت أكثر تقدماً وازدهاراً من أداء الموانئ العالمية الحالية من فئة الجيل الرابع. فالوكالات حرة، والجمارك مدمجة بإدارة الموانئ، ومكاتب الشركات البحرية الأجنبية تتلقى أفضل الخدمات وأسرع التسهيلات، والأرصفة تعمل على مدار الساعة، ولا مكان للمفسدين والمرتشين في أروقتها، ومعظم عمال الموانئ ينحدرون من الطبقات الريفية المسلحة بأخلاق القرية، ولا مجال للسرقات والابتزازات والطرق الملتوية في تعاملاتها مع خطوط الشحن البحري. فمن غير المعقول أن نتنازل عن استحقاقاتنا المينائية ونفقد الأمل بسلطتنا البحرية المرتقبة قبيل ولادتها القيصرية. |