امين السكافي يُعدّ الفكر المقاوم إحدى الظواهر الإنسانية الجامعة التي تتشكّل كلّما وُجد الظلم واتّسع، وكلّما استحال الصمت تواطؤًا، والحيادُ انحيازًا للمعتدي. فالمقاومة، في أصلها، ليست طارئة على التاريخ، ولا وليدة لحظة سياسية بعينها، بل هي استجابة أخلاقية واعية لفعلٍ قهريّ سابق؛ ردّ فعلٍ على الاحتلال والاستبداد والفساد والعدوان، حين تُسلب الإرادة ويُداس الحقّ وتُهان الكرامة. نشأت فكرة المقاومة من رحم الحاجة الوجودية إلى الدفاع عن الذات والجماعة، لا بوصفها نزوعًا للعنف، بل باعتبارها فعلًا وقائيًا يهدف إلى استعادة التوازن المختلّ بين القوّة والحق. فحين تتحوّل القوّة إلى أداة قهر، يصبح الحقّ عاريًا إلا من إرادة تحميه. هنا، تتقدّم المقاومة كفكرة قبل أن تكون ممارسة، وكوعيٍ قبل أن تكون سلاحًا، وكقيمةٍ قبل أن تكون تنظيمًا. وما يميّز الفكر المقاوم أنّه عابرٌ للقيود الضيّقة؛ فهو لا يُحاصر بدينٍ بعينه ولا بجغرافيا محدّدة ولا بانتماء قبلي أو قومي. إنّه فعل إنسانيّ خالص، يتّخذه الإنسان الحرّ حين يختار الانحياز للعدالة على حساب سلامته الشخصية. فحامل لواء المقاومة ليس بالضرورة ابن عقيدة واحدة، بل هو ابن الضمير الحيّ، الذي يفضّل أمن مجتمعه وكرامة شعبه على راحته الفردية، ولو كان ثمن ذلك الأسر أو التعذيب أو الاستشهاد. ومن منظور فلسفي، يمكن فهم المقاومة بوصفها تجسيدًا لمبدأ الحرّية العملية؛ تلك الحرّية التي لا تكتفي بالرفض الداخلي، بل تتحوّل إلى فعلٍ تاريخيّ. فالإنسان المقاوم يرفض أن يكون مجرّد موضوعٍ للهيمنة، ويصرّ على أن يكون فاعلًا في صناعة مصيره. إنّه انتقال من حالة الاضطرار إلى حالة الاختيار، ومن الانكسار إلى المعنى، حيث يصبح الألم ذاته طريقًا لإعادة تعريف الكرامة. ولا تقوم المقاومة على الحقد، بل على الوعي؛ ولا تُغذّيها الرغبة في الانتقام، بل الحاجة إلى العدالة. فهي فعل أخلاقيّ بامتياز، يُعيد ترتيب العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويُرسّخ فكرة أن الحقوق لا تُوهب بل تُنتزع انتزاعًا مشروعًا حين تُصادر. من هنا، يغدو الفكر المقاوم ذاكرة الشعوب الحيّة، ولسان حالها حين تُكمّم الأفواه، ودليلها العمليّ على أنّ الحرّية لا تموت ما دام في الإنسان نبض يرفض الخضوع. |