إبراهيم المحجوب كثيرون هم الرجال الوطنيون في العراق، غير أنّ الذاكرة العامة – وللأسف – لا تحتفظ إلا بالأسماء التي تُكرّسها شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام، فتُضفى عليها هالات التمجيد، ويُصوَّر أصحابها على أنّهم وحدهم من قدّم وضحّى. وفي المقابل، يبقى رجالٌ آخرون في الظل، لم ينالوا حقهم من الإنصاف، ولم تُسلَّط عليهم الأضواء، رغم أنّ تاريخهم النضالي زاخر بالتضحيات والمواقف الصلبة. هؤلاء لم يسعوا يومًا إلى شهرة أو منصب، ولم يجعلوا من الإعلام سلّمًا للصعود، لأنّ ما حرّكهم كان روحًا وطنية صادقة، وإيمانًا راسخًا بخدمة الشعب، ومقارعة الظلم والاستبداد، مهما كان الثمن. ومن بين هؤلاء الرجال تبرز شخصية وطنية عراقية كتبت مجدها بصمت، وتحملت قسوة السجون، والملاحقة، والغربة، دون أن تتخلى عن مبادئها… إنّه الأستاذ حميد رشيد فليح الشطري. يُعدّ حميد الشطري من أوائل المناضلين في صفوف المعارضة العراقية، ومن الأسماء المعروفة في تاريخ أهوار الجنوب، تلك المناطق التي شكّلت أحد أهم معاقل الرفض والمقاومة للنظام السابق. كان من أوائل من تعرّضوا للاعتقال بسبب أفكارهم السياسية، ولم يتوقف الأمر عنده شخصيًا، بل طال الاعتقال أفراد أسرته أيضًا، في واحدة من أكثر صور القمع قسوة. وُلد الشطري عام 1969 في قضاء الشطرة بمحافظة ذي قار، ونشأ شابًا متفوقًا في دراسته، يحمل طموحًا علميًا واضحًا، وكان يتطلع إلى إكمال مسيرته الأكاديمية. غير أنّ ظروف البلاد، وما رآه من ظلم واستبداد، دفعته إلى الالتحاق بالمعارضة منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وهو في سن مبكرة. شارك في الانتفاضة الشعبانية، ثم اعتُقل مع عائلته لمدة عامين، ليبدأ فصلًا جديدًا من فصول المعاناة والنضال. بعد الإفراج عنه، انتقل إلى إقليم كردستان، ثم قادته ظروف المطاردة إلى الهجرة والاستقرار في أوروبا، وتحديدًا في سويسرا. ومن هناك، واصل نشاطه السياسي المعارض، وكان يُحسب له حساب داخل الأجهزة الأمنية للنظام السابق، لما عُرف عنه من ذكاء وقدرة على التنظيم والعمل السري. أتقن ثلاث لغات أجنبية هي الإنكليزية والألمانية والفارسية، إلى جانب لغته العربية الأم، وحصل على شهادة البكالوريوس في علوم الفيزياء، فضلًا عن دبلوم في مجال الاتصالات من جامعة زيورخ، ثم نال لاحقًا شهادة الدكتوراه في القانون عام 2020. بعد سقوط النظام، عاد حميد الشطري إلى العراق، دون أن تكون المناصب أو المكاسب المالية هدفه. كان همه الأول والأخير هو الإسهام في بناء الدولة، وتحرير الإنسان العراقي من إرث الخوف والذل، ولا سيما في المناطق التي عانت طويلًا من التهميش والإقصاء. تقلّد عدة مناصب رسمية، واستطاع أن يقدّم خدمات واضحة في تطوير المؤسسات التي عمل فيها، سواء من حيث تحديث الأجهزة أو تعزيز الأداء المهني، مع حرص دائم على تحقيق الأمن والاستقرار في مختلف المدن العراقية. ويمتلك الشطري علاقات دولية واسعة ومميزة، بحكم ابتعاده عن الطائفية، واعتماده نهجًا وطنيًا متوازنًا. وهو سياسي يتمتع بحنكة عالية، وقدرة على المناورة الإيجابية، خاصة في ما يتعلق بالعلاقات الخارجية للعراق. ورغم كونه شخصية أمنية، إلا أنّ خبرته تمتد أيضًا إلى الجانبين الاقتصادي والإداري، ما جعله قادرًا على إدارة مؤسسات الدولة بعقلية شاملة، وهو ما أكسبه قبولًا واضحًا لدى العديد من الأوساط السياسية العراقية، فضلًا عن احترام المحيط الإقليمي والدولي. إنّ ما يميّز حميد الشطري، اليوم، أنّه لم ينسَ ماضيه النضالي، ولم يسمح للتجربة القاسية أن تحوّله إلى شخصٍ أسيرٍ للضغينة أو الانتقام. يتعامل بروح وطنية عراقية خالصة، منفتحًا على الجميع، مؤمنًا بأنّ المصالحة وبناء الثقة هما الأساس الحقيقي لاستقرار الدولة. وتبقى هذه الروح المتسامحة، بعد مسيرة طويلة من الألم، هي المكسب الأكبر لأي مناضل صادق. ختامًا، فإنّ إنصاف الشخصيات الوطنية لا يكون فقط بتعداد مناصبها، بل باستحضار تاريخها، وتضحياتها، ونقاء مقاصدها. وحميد الشطري مثال حيّ لرجلٍ خدم وطنه بصمت، وآن الأوان أن يُكتب عنه بما يليق بتجربته، بعيدًا عن ضجيج الإعلام، وقريبًا من الحقيقة... |