المستقبل العراقي / محمد النصراوي المواطن البغدادي يجد نفسه محاصراً في بيئة مشبعة بالرسائل السياسية المتناقضة بغداد ليست جزيرة معزولة بل هي مرآة للصراعات الإقليمية والدولية
إن قراءة المشهد العراقي من زاوية أمنية بحتة، تحصر الصراع في عدد السيطرات العسكرية أو انتشار القوات المسلحة، هي قراءة قاصرة تتجاهل العمق الحقيقي للمعركة الدائرة في أزقة بغداد وشوارعها وساحاتها العامة، فبغداد، بصفتها مركز الثقل السياسي والروحي للدولة العراقية، لم تعد مجرد رقعة جغرافية يتنازع الفرقاء على مسك الأرض فيها، بل تحولت إلى منصة كبرى لصراع الأفكار والرؤى، حيث يسعى كل طرف لفرض لغته الخاصة ومنطقه السياسي على واجهة العاصمة، في معركة يمكن وصفها بأنها حرب «صياغة الهوية» وفرض المنطق السائد، بدلاً من كونها حرب خنادق تقليدية، فالطرف الذي ينجح في هندسة الخطاب العام، ويتمكن من صبغ العاصمة بلونه الأيديولوجي، هو الذي يمسك بزمام المبادرة السياسية، حتى وإن كانت القوة العسكرية الخشنة موزعة بغير انتظام.في هذا السياق، نجد أن التنافس المحموم لا يدور حول من يملك السلاح فحسب، بل حول من يملك القدرة على تعريف «الوطنية» و»الدولة» و»السيادة» من قلب بغداد، إذ إن العاصمة تمثل الجائزة الكبرى التي تمنح الفائز بها شرعية التحدث باسم العراق كله، ولذلك نرى أن القوى السياسية، سواء تلك المنخرطة في السلطة أو التي تعمل في ظلها، تدرك جيداً أن السيطرة على المباني الحكومية لا تعني شيئاً إذا كان الشارع يتبنى منطقاً مغايراً، ومن هنا تنشأ تلك المعركة الخفية والشرسة للسيطرة على الرموز؛ فاللافتات التي تملأ الشوارع، وتماثيل وصور الزعماء، والشعارات التي تخط على الجدران، وحتى أسماء الجسور والساحات، كلها ليست مجرد ديكورات عابرة، بل هي أدوات في ترسانة حرب ناعمة تهدف إلى احتلال عقل المجتمع البغدادي قبل احتلال الأرض، ومحاولة لقولبة المدينة بقالب فكري محدد يقصي الآخرين أو يحجم أدوارهم. وعند الغوص أعمق في هذا التحليل، نلحظ أن هناك انقساماً حاداً بين رؤيتين تتصارعان على وجه بغداد؛ الرؤية الأولى هي رؤية «الدولة» بمفهومها المؤسساتي والدبلوماسي، التي تسعى لتقديم بغداد كعاصمة منفتحة، مستقرة، تشبه نظيراتها في العالم، وتريد للخطاب السائد أن يكون خطاباً مدنياً يركز على الإعمار والخدمات والعلاقات الدولية المتوازنة، وفي المقابل، تبرز رؤى أخرى تحاول إبقاء العاصمة في حالة من التعبئة المستمرة، وتصر على صبغها بصبغة عقائدية أو جهوية، معتبرة أن بغداد يجب أن تكون رأس حربة في مشروع إقليمي أو محلي أكبر، وهذا التضاد يخلق حالة من «الفصام العمراني واللفظي» في المدينة، حيث تجد الفنادق الفاخرة والمطاعم الحديثة التي تمثل واجهة «الحياة الطبيعية» محاطة بغابة من الشعارات والرايات التي تذكر بحالة الحرب الدائمة، وهو ما يعكس الصراع الجوهري حول لمن تعود الكلمة العليا في تعريف وظيفة بغداد؟ هل هي مدينة للعيش أم متراس للحرب؟ إن خطورة هذا الصراع تكمن في أن الجهة التي تملك القدرة على تعميم مصطلحاتها وفرض قاموسها السياسي هي التي تحدد مسار الأحداث اللاحقة، فعندما ينجح طرف ما في وسم خصومه بصفات معينة (كالخيانة أو التبعية أو الفساد) ويجعل هذه الصفات متداولة ومقبولة في أحاديث المقاهي وصالونات السياسة البغدادية، فإنه يكون قد حقق نصراً يفوق في أهميته الانتصار العسكري، لأن السياسة في العراق، وفي بغداد تحديداً، هي لعبة انطباعات بامتياز؛ فمن يبدو قوياً ومسيطراً وصاحب «الحق» في الكلام، هو الذي يطيعه الجهاز البيروقراطي، ويهابه الخصوم، ويحسب له المجتمع الدولي ألف حساب، ولعل هذا يفسر لماذا نرى استعراضات للقوة في قلب العاصمة لا تهدف لاحتلال موقع عسكري، بل تهدف ببساطة إلى إرسال رسالة بصرية تقول «نحن هنا، ونحن من يكتب قواعد الاشتباك». علاوة على ذلك، فإن الصراع على «المنطق السائد» في العاصمة يمتد ليشمل الذاكرة التاريخية للمدينة، فكل طرف يحاول استحضار التاريخ الذي يخدم مشروعه، وإعادة تسمية المعالم أو إحياء مناسبات معينة وتجاهل أخرى، في محاولة لإعادة كتابة هوية بغداد بما يتلاءم مع مشروعه السياسي الحالي، وهذا يعني أن المواطن البغدادي يجد نفسه محاصراً في بيئة مشبعة بالرسائل السياسية المتناقضة، حيث تحاول كل جهة استمالته ليس فقط كصوت انتخابي، بل كحامل لرايتها الفكرية، فالسيطرة الأمنية قد تفرض الهدوء، لكن السيطرة على الخطاب هي التي تفرض الولاء، أو على الأقل، تفرض الإذعان للأمر الواقع الذي تصنعه الكلمات والصور قبل البنادق. ولا يمكن إغفال البعد الخارجي في هذا الصراع، فبغداد ليست جزيرة معزولة، بل هي مرآة للصراعات الإقليمية والدولية، والقوى الخارجية تدرك أيضاً أن النفوذ الحقيقي لا يتحقق فقط عبر حلفاء يملكون المناصب، بل عبر حلفاء يملكون «اللسان»، أي القدرة على تبرير وجودهم وتسويق مشاريعهم للجمهور العراقي، لذا نرى أن المال السياسي يضخ بكثافة ليس فقط في الجيوب والأسلحة، بل في القنوات الفضائية، والجيوش الإلكترونية، وواجهات المجتمع المدني، وكل ذلك بهدف واحد، وهو الفوز بمعركة المصطلحات وتوجيه الرأي العام داخل العاصمة، لأن من يخسر صورته في بغداد، يخسر العراق، حتى لو كان يسيطر على محافظات بأكملها خارج العاصمة. يبدو جلياً أن المعركة القادمة في العراق لن تُحسم بزيادة عدد الجنود أو نصب المزيد من نقاط التفتيش، بل ستُحسم لصالح الطرف الذي ينجح في تقديم «قصة» مقنعة ومتماسكة عن الدولة والمجتمع، قصة تستطيع أن تبتلع قصص الآخرين وتهمشها، إن الاستقرار الحقيقي في بغداد لن يتحقق بمجرد غياب المفخخات أو توقف الاغتيالات، بل سيتحقق عندما يتم حسم هذا التنازع الجدلي حول هوية الدولة، وعندما يتبلور خطاب وطني جامع يتفوق على الخطابات الفئوية والجزئية، وحتى تلك اللحظة، ستبقى بغداد ساحة مفتوحة لصراع الإرادات، حيث يحاول كل طرف أن يصرخ بصوت أعلى ليغطي على أصوات الآخرين، موقناً أن التاريخ لا يكتبه من يطلق الرصاصة الأخيرة، بل من يكتب السطر الأخير في البيان السياسي الذي سيقرأه الجميع. |