رسول حسين في التاريخ رجالٌ يشبهون الطود، لا تقف أمامهم العواصف، ولا تُثنيهم السهام، ولا تفتّ في عزائمهم الليالي السود. رجالٌ إذا ذُكرَتْ واقعةُ الطف، انبعثت صورهم من بين السيوف والدموع، لأنهم حملوا أرواحهم على أكفهم، ولبّوا نداء الحسين عليه السلام بثباتٍ لا يُضاهى. ومن بين تلك الصور، يبرز عابس بن شبيب الشاكري، ذلك الفارس الذي وقف في كربلاء ليقول للعالم كلّه، “إني لا أبالي إن وقعتُ على الموت أو وقعَ الموتُ عليّ”، فكان صلبًا كالحديد، ثابتًا كالجبل، وقدّم جسده قربانًا لطريق الحق. ويبرز معه أبو الفضل العباس عليه السلام، راية الولاء وعمود البطولة، الذي اندفع إلى الموت من أجل أن لا تنكسر راية الحسين، ومن أجل أن تبقى القضية أطهر من الماء الذي مُنع عنه. وها نحن اليوم، بعد قرون، نقف أمام مشهدٍ يعيد صدى الطف بطريقةٍ أخرى، يوم النصر يوم تحرير الأرض من دنس داعش، لكن هذا النصر توّج برحيل اثنين من أعظم القادة من الرعيل الاول للمجاهدين. أتحدث عن مشهدٌ وُلد من نار داعش، ومن ظلام الموت الذي كان يزحف على المدن، ومن خوفٍ كاد يبتلع العراق ويمحو ملامحه. في ذلك الوقت ، خرج رجلان يشبهان أولئك الأنصار من يوم الدم، رجلان حملوا روح الحسين عليه السلام في قلوبهم، وساروا على خُطى أنصار يوم الدم، و ثبتوا كما ثبت العباس، وقاتلوا كما قاتل عابس، وضحّوا كما ضحّى كل شهيدٍ خلد اسمه في كربلاء. الحاج قاسم سليماني… ذلك الذي كان يمشي نحو الخطر بلا وجل، يقتحم المواقع بصلابة تذكّر بصيحات أنصار الحسين وهم يتقدمون نحو الموت. كان يمدّ روحه للناس قبل يده، يعرف أن القائد الحقيقي هو الذي يسبق جنوده إلى ساحات النار. كان في كل خطوةٍ منه ظلّ فارسٍ كربلائي، لا يهاب السهام ولا يلتفت إلى الدنيا. وإلى جانبه، الحاج أبو مهدي المهندس… الأبُ، القائد، الحارس، الذي حمل الأرض على كتفيه وهو يرى المدن تتساقط. كان يقف في المتاريس كما وقف العباس عند نهر العلقمي، ثابتًا، شامخًا، لا يطلب لنفسه شيئًا. كان وجهه يضيء تحت دخان المعارك، وكأن في عينيه ذكرى أولئك الذين سبقوه إلى المجد، من زهير إلى حبيب إلى مسلم بن عوسجة، إلى كل من كتبوا بالدم معنى الفداء. رحلا ولم يعد المشهد كما كان… فبعد غيابهما أصبحت الديار مظلمة، موحشة، كيف نفرح بالنصر بلا من صنعه؟ وكيف نحتفل بالسلام بلا من قدّم له دماءه؟، النصر اكتمل، نعم، لكنه ظلّ ناقصًا في القلوب التي افتقدت وجوهًا كانت تشرق في أحلك الساعات. إنهما عابس زمانهما… ومثالٌ آخر لقادةٍ من أنصار يوم الدم، أولئك الذين لا يشبهون سواهم، ولا يليق بهم إلا ميادين الموت التي تصنع حياةً لغيرهم. قاتلا كما يقاتل رجال العقيدة، ثبَتا كما يثبت أهل المبدأ. ومضيا كما يمضي الشهداء… بلا خوف، بلا تردد، وبابتسامةٍ يعرفها من رأى الطريق واضحًا أمامه. وستبقى سيرتهما، كما بقيت سيرة عابس والعباس وأنصار الطف، منارةً تُذكّر الأجيال أن الحق لا يحميه إلا الرجال الذين يؤمنون بأن الدم آخر ما يملك الإنسان… وآخر ما ينبغي عليه أن يبذله. سلامٌ على روحهما ما بقيت الأرض تتنفس الحرية. وسلامٌ على مدرستهما ما بقيت الأمم تتعلم معنى النصر. وسلامٌ على ظلالهما التي ما زالت تحرس العراق كما تحرس أرواح شهداء كربلاء أرضها إلى الأبد. |