طه حسن الاركوازي يملُك العراق كُل المقومات التي تجعل منه قوة إقليمية مُزدهرة ، فهو بلد غني بموارده الطبيعية والبشرية ، ومتنوع بثقافته ، وشاب بمجتمعه ، لكنه بقيَّ أسير دوامة سلسلة الأزمات بسبب غياب الإدارة الوطنية الحكيمة القادرة على تحويل هذه العناصر إلى مشروع دولة مُستقرة . لم يعد السؤال اليوم حول ما يملكه العراق ، بل حول كيفية إدارة ما يملكه ، ومن يتولى مسؤولية توجيه هذا البلد نحو مسار يعيد الثقة بين المواطن والدولة ، ففي خضم الجدل الدائر بين من يدعون للمشاركة الواسعة في إدارة الشأن العام ، وبين من يختارون الرفض بوصفه موقفاً أحتجاجياً ، تبقى الغاية الأهــــــم واحدة “بناء عراق قوي مُزدهر يحظى بقيادة تدرك أن مسؤولية الحكُم ليست أمتيازاً سياسياً بل تكليف وطني يتطلب رؤية تتقدم فيها مصلحة الدولة على كُل حساب فئوي ضيق” .؟ إن أختيار القادة ليس فعلاً أنتخابياً شكلياً ، بل هو أستثمار طويل الأمد في مستقبل البلاد ، وتجارب دول كثيرة كانت مُضطربة سياسياً مثل “كولومبيا” بعد أتفاقاتها السياسية ، “ورواندا” بعد الحرب الأهلية ، “وتشيلي” في مرحلة التحول الديمقراطي ، حيثُ أثبتت أن لحظة الاختيار يمكن أن تكون نقطة الانطلاق نحو الاستقرار إذا أحسن المواطنون والنُخب أنتقاء قيادات تكون قادرة على إدارة التحولات العميقة ، ووضع بلدهم على مسار مؤسسي لا تهزه الأزمات . في العراق ، أصبح هذا القرار أكثر حساسية بسبب التشابكات العديدة بين التحديات الداخلية ومتغيرات البيئة الإقليمية والدولية ، فالبلد يواجه ضغوطاً أقتصادية نتيجة تقلبات أسعار النفط ، وأزمة مائية مُتصاعدة تُهدد أمنه الزراعي والسكاني ، إضافةً إلى تحديات سياسية تتعلق بتوازن القوى داخل البيت الشيعي ، وصراع النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران ، وهو صراع لا يمكن تجاهل تأثيره على تشكيل الحكومة المُقبلة ، ومن خلال مُتابعة تقارير مراكز الأبحاث الدولية مثل “مجموعة الأزمات الدولية ومعهد واشنطن وتشاتهام هاوس” ، يتضح أن منصب رئيس الوزراء في العراق لم يعد شأناً محلياً بحتاً ، بل موقعاً يتطلب قدرة على إدارة توازنات داخلية وإقليمية مُعقدة ، مع الحفاظ على أستقلال القرار الوطني ، ومرونة الدولة أتجاه المُتغيرات المحيطة ، ويبدو أن مسار أختيار رئيس الوزراء المُقبل يسير بأتجاه ثلاث مُعادلات رئيسة تتداخل مع بعضها ، ولا يمكن لأي مرشح تجاهلها مهما أمتلك من رصيد سياسي أو دعم حزبي : المعادلة الأولى : تتعلق بالتوافق الداخلي داخل البيت السياسي الشيعي ، حيث ما تزال الثوابت المُرتبطة بالهوية السياسية ، والحشد الشعبي ، وتنظيم العلاقة مع الوجود الأجنبي ، تُمثل خطوطاً حمراء لا يتجاوزها أي مُرشح يبحث عن دعم هذا المكوّن ، فالتجارب السابقة أثبتت أن غياب الانسجام داخل المكوّن الأكبر في البرلمان ينتج حكومات ضعيفة ، غير قادرة على أتخاذ قرارات أستراتيجية ، بل سرعان ما تدخل في دائرة الشلل السياسي . ألمعادلة الثانية : حول إدارة التوازن الحساس بين واشنطن وطهران ، فالعراق لا يستطيع القطيعة مع الولايات المتحدة لما تمثله من ثقل سياسي وأقتصادي وعسكري . كما لا يمكنه أيضاً تجاوز تأثير إيران بوصفها لاعباً أساسياً داخل العملية السياسية ، هذا التوازن كان ولا يزال التحدي الأكبر لأي رئيس وزراء ، وقد فشل في تجاوز هذا الامتحان أكثر من مسؤول في العقدين الماضيين ، لأن معادلة العلاقات الخارجية في العراق مُعقدة ولا تسمح بأنحياز حاد أو قطيعة حاسمة مع أي طرف . المعادلة الثالثة : تبرز بوصفها الأكثر إلحاحاً فالحاجة إلى رئيس وزراء وطني يمتلك رؤية أقتصادية واضحة ، وخبرة في الإصلاح الهيكلي ، وقدرة على إدارة دولة تواجه أزمة مالية مُحتملة ، وشحاً مائياً مُتزايداً ، وقطاعاً عاماً مُترهلاً ، وأعتماداً شبه كُلي على النفط . فالدول التي نجحت في الخروج من الأزمات مثل “ماليزيا” في مرحلة مهاتير ، “وكوريا الجنوبية” بعد أزمتها الاقتصادية في التسعينيات أعتمدت على قيادات أمتلكت الجُرأة في أتخاذ قرارات مُؤلمة ، ولكن ضرورية ، كما أستطاعت بناء عقد أجتماعي جديد مع شعوبها . أخيراً وليس أخراً .. إن العراق اليوم بحاجة إلى قرار وطني هادئ ، حكيم ، ومسؤول ، سواء عبر المشاركة الواعية في الاختيار أو أتخاذ موقف أحتجاجي يدفع نحو إصلاح المسار ، فالقضية لا تتعلق بمرشح أو حزب أو إطار سياسي ، بل بمستقبل دولة تقف عند مفترق طرق حاسم ، والطبقة السياسية مدعوة إلى قراءة هذه اللحظة بعمق ومسؤولية ، وأن تكون على مستوى التحديات ، وأن تدرك أن الزمن لم يعد يسمح بالمناورات أو الحسابات الضيقة . إن بناء العراق يبدأ بقرار ، ويتكرس بإرادة ، ويتواصل بعمل ، ومهما أختلفت الآراء ، يبقى الهدف واحداً هو عراق قادر على أن ينهض ، وأن يُنصف شعبه ، وأن يستعيد مكانته التي يستحقها بين الأمم …! |