محمد عبد الجبار الشبوط / تمارا عبد القادر مقدمة : تُعدّ البنية السياسية للطائفة الشيعية في العراق من أكثر البُنى تعقيدًا وتشابكًا في المشهد الوطني، نظرًا لتداخل العوامل الدينية والتاريخية والحزبية والاجتماعية فيها. فهي لا تتكوّن من كتلة واحدة متجانسة، بل من تيارات متعددة تتنازع الشرعية والتمثيل والقيادة داخل الفضاء الشيعي، وتختلف في رؤيتها لعلاقة الدين بالسياسة، والدولة بالمجتمع. ويمكن تحليل هذه البنية، على نحوٍ تقريبي، من خلال ثلاثة أشطر رئيسة: شطرٌ عائلي ديني، وشطرٌ حزبي إسلامي، وشطرٌ شبابيٌّ ناقم يبحث عن بديل. أولًا: شطرٌ تقوده عائلتان دينيتانك : غالبًا ما يُشار هنا إلى آل الصدر وآل الحكيم. لكلتا العائلتين رصيدٌ رمزي ديني واجتماعي عميق وامتداد تنظيمي وسياسي: • آل الصدر (تيار الصدر): زعامة شعبوية ذات قاعدة اجتماعية واسعة، وقدرة على الحشد والانسحاب التكتيكي، وامتلاك جناحٍ مسلحٍ تاريخيًا (سرايا السلام)، مع خطابٍ وطنيٍّ ينازع نفوذ الخارج ويكافح الفساد وفق رؤيته. • آل الحكيم: رأسمال ديني-مرجعي تاريخي، وتحول تنظيمي من «المجلس الأعلى» إلى «تيار الحكمة الوطني»، ونهجٌ تفاوضي يميل إلى الوسطية والبراغماتية داخل المعادلة الشيعية الأوسع. ومن المهم الإشارة إلى أن المرجعية العليا في النجف (السيد السيستاني) لا تُمارس قيادة حزبية مباشرة، وإن كان لفتاواها ومواقفها أثرٌ تأسيسيّ في توجيه المشهد العام (مثل فتوى 2014 التي أسّست للحشد الشعبي). وهنا يبرز التفريق بين الرمزية الدينية المؤسسة والقيادة الحزبية التنفيذية. ثانيًا: شطرٌ تقوده أحزاب دينية إسلامية: هذا الشطر هو العمود الفقري لما يُعرف اليوم بـ«الإطار التنسيقي»، ويتكوّن من شبكات حزبية وفصائلية متداخلة: • حزب الدعوة/ائتلاف دولة القانون (بقيادة نوري المالكي): حزب دولة عتيق يميل إلى مركزية القرار ويحتفظ بآلة تنظيمية وانتخابية وخبرة في إدارة السلطة. • منظومة الفصائل وتحالف الفتح (بدر–العامري وحلفاؤه من فصائل الحشد): تمثّل ترجمةً سياسية لأذرعٍ مسلحة شرعنتها الدولة بقانون «هيئة الحشد الشعبي»، وتتمتع بنفوذ انتخابي وموارد تنظيمية مرتبطة بملف الأمن والنفوذ الإقليمي. • قوى إسلامية أخرى (الحكمة، النصر، الدعوة/الإصلاح…): تؤدي أدوارًا وسيطة تسهم في هندسة التوازنات داخل البيت الشيعي. سمات هذا الشطر تتلخص في: 1. مأسسة النفوذ عبر الدولة، مقابل تسييس مؤسسات الدولة؛ 2. تعدد مراكز القرار داخل الإطار مع تنافسٍ على الموارد والتمثيل؛ 3. ازدواج مدني-أمني يولّد احتكاكًا بين منطق الحكومة ومنطق الفصيل. هذه التركيبة تمنح قوة تعبئة وحماية، لكنها تخلق أيضًا كلفة تنسيق مرتفعة وتثير أسئلة حول شرعية القرار ووحدته. ثالثًا: شطرٌ شبابيٌّ ناقمٌ غيرُ متجانس: يمثّل هذا الشطر امتدادًا لروح المظاهرات الاحتجاجية في تشرين 2019 وما تفرّع عنها من كيانات صغيرة وقوائم سياسية ومحاولات تمثيل مدني. خصائصه الأساسية: • استقلال نسبي عن البنى الطائفية التقليدية. • تنوع في المشارب الفكرية والمناطقية، مع افتقارٍ للهيكلة التنظيمية الصلبة. • تعرّض لعنفٍ مفرطٍ واغتيالاتٍ متكررة، مما أضعف قدرته على التحول إلى قوة سياسية مستدامة. رغم ذلك، يبقى هذا الشطر حاملًا لمطلب أخلاقي جوهري يتمثل في إعادة تعريف الدولة على أساس المواطنة والعدالة والشفافية. جدلية العلاقة بين الأشطر الثلاثة • العائلة تمنح الشرعية الرمزية، الحزب يمنح الآلة التنظيمية، والشارع يمنح التفويض الأخلاقي المتجدد. • العلاقة بين هذه العناصر ليست تناقضية بالكامل؛ بل هي تفاعلية، إذ يعيد كل شطر تعريف الآخر بحسب الظرف السياسي. • البنية الشيعية أصبحت ساحة صراع بين ثلاثة أنماط من الشرعية: الدينية، التنظيمية، والشعبية. التقييم العام: يُظهر التحليل أن هذا التوصيف الثلاثي يعكس جوهر التعدد داخل الجسم السياسي الشيعي في العراق. لكن الحدود بين هذه الأشطر ليست صلبة، بل متداخلة ومتغيرة بحسب الموقف السياسي والظرف الإقليمي. فالعائلة قد تتحول إلى حزب، والحزب قد يستند إلى شرعية عائلية، والشارع قد يجد لنفسه تمثيلًا داخل بعض أجنحة الحزب. وتكمن المشكلة البنيوية في غياب مشروع وطني حضاري يدمج هذه العناصر ضمن إطار مؤسسي يتجاوز الهويات الفئوية إلى هوية الدولة الحديثة. نحو أفقٍ حضاري جديد: إنّ الخروج من مأزق التشتت الشيعي لا يتحقق عبر تغليب شطرٍ على آخر، بل عبر بناء ميثاق حضاري وطني يربط الشرعية السياسية بمبادئ الحكم الرشيد: الشفافية، العدالة، والمواطنة. وهذا يتطلب: • تحويل الشرعية الرمزية إلى مأسسة ديمقراطية واضحة الحدود. • دمج القوى المسلحة في إطار الدولة وفق القانون والمساءلة. • تمكين القوى الشبابية والمدنية من المشاركة الفعلية في القرار. • تحييد تأثير الاستقطابات الإقليمية عبر سياسة توازن مستقلة. إن التعدد داخل الجسم الشيعي، إذا ما أُدير بعقلٍ حضاريٍّ رشيد، يمكن أن يتحول من مصدر صراع إلى طاقة بنّاءة لإصلاح الدولة وبناء وعي سياسي جديد يتجاوز الطائفية نحو المشروع الحضاري للعراق الحديث. |