اسماعيل النجار لم تعد أوروبا اليوم تلك القارة المزدهرة التي شكّلت لعقودٍ محور الاستقرار الاقتصادي والسياسي العالمي. خلف واجهة المؤسسات الديمقراطية والتكامل الاقتصادي، تتراكم فيها أزمات عميقة تهدد بانفجار داخلي غير مسبوق. فالعجز المالي، والركود الاقتصادي، وصعود الحركات الشعبوية، والتبعية المتزايدة لواشنطن، جعلت القارة العجوز عاجزة عن مواجهة نفسها، فلجأت إلى تصدير أزماتها نحو أفريقيا والشرق الأوسط، عبر تدخلات سياسية وعسكرية واقتصادية، تُستخدم غطاءً لإخفاء وهنها الداخلي. الضغوط الأميركية منذ عهد ترامب الأول للعهد الحالي مروراً ببايدن إلى اليوم، دخلت العلاقات الأوروبية الأميركية مرحلة جديدة من التبعية القسرية لواشنطن. فرضت إدارة ترامب ضرائب على الصناعات الأوروبية، وأرغمت الاتحاد الأوروبي على إعادة صياغة اتفاقاته التجارية بما يخدم أولويات واشنطن. كما دفعت الولايات المتحدة أوروبا للتخلي عن الغاز الروسي، مقابل الارتهان للغاز الأميركي المسال، بتكاليف باهظة زادت من تضخم الأسواق الأوروبية. وأُجبِرَت واشنطن الدول الأوروبية على رفع إنفاقها الدفاعي لصالح حلف الناتو، في وقت كانت موازنات هذه الدول تعاني من عجز متراكم. ما بعد ترامب لم يكن الوضع أفضل بل مختلفاً جذرياً؛ واصلت إدارة بايدن النهج نفسه، وإن بوسائل أكثر دبلوماسية، ما جعل أوروبا تابعة أكثر من كونها شريكاً. أوروبا المأزومة في السياسة قبل الاقتصاد، هي تعيش اليوم أزمات متداخلة؛ أزمة اقتصادية: نمو ضعيف، تضخم مرتفع، وفشل في جذب استثمارات عالمية مقارنة بالولايات المتحدة والصين. وبدأت الاعتماد على بدائل مكلفة بعد الحرب الأوكرانية التي أنهكت الصناعات الثقيلة في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا. إن صعود اليمين المتطرف والشعبوية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا يهدد بتفكيك الاتحاد الأوروبي من الداخل بشكل سريع ويُصَعِد من وتيرة الخلافات الداخلية في البيت الأوروبي. وخلقت أزمات اجتماعية واحتجاجات متواصلة على الضرائب وارتفاع الأسعار في ظل تراجع مستويات المعيشة. هذه الأزمات جعلت الحكومات الأوروبية عاجزة عن تقديم حلول جذرية، فلجأت إلى “الاستراتيجية القديمة”: تصدير المشاكل إلى الخارج. إلى أفريقيا والشرق الأوسط كساحة اختبار فهمآ يشكّلان المجال الحيوي الذي تلجأ إليه أوروبا للتغطية على إخفاقاتها! فرنسا: بعد فشلها في الداخل، زجّت بنفسها في نزاعات الساحل الأفريقي، لكنها خرجت بخسائر سياسية وعسكرية، وواجهت رفضاً شعبياً أفريقياً متصاعداً. إيطاليا والبرتغال: تبحثان عن النفوذ عبر اتفاقيات الطاقة والهجرة، لكنهما تواجهان عجزاً في تطبيق سياسات متماسكة. ألمانيا وبريطانيا: تواصلان استخدام أدوات الضغط الاقتصادي والدبلوماسي في أفريقيا والشرق الأوسط لتأمين المواد الخام، وتخفيف الضغط الاجتماعي عبر التحكم بموجات الهجرة. بهذه الطريقة، تتحول الأزمات الأوروبية إلى “مشاريع خارجية”، تدفع شعوباً أخرى ثمنها، في حين تُخدّر المجتمعات الأوروبية بخطاب عن “دور أوروبا العالمي”. |