كوثر العزاوي

ينبغي للإنسان أن يختار من الأمور مايثري عقله وينعش روحه، ويسمو به حيث الكمال الإنساني، ويَحذَر مما يسبب له الهبوط الى حضيض الخسة والدنو، ويَربأ بنفسه عن كلّ ما لا يعنيه، حرصًا على نفسه من هدر قابلياتها واستهلاك طاقاتها، فليس كل شيء يستحق هدر الوقت الذي يمثّل عدّاد عمر الانسان، بل لابد من الوقوف عند قيمة الأشياء، وليس لكثرتها ولا فخامتها. كما لا يحقّ للمرء أن يسلك طريق الكثرة في كل شأن من الحياة المتقلّبة.

قديمًا قالوا (لايغرنّكم غلاء الثمن)، مما يوحي لنا بالمقارنة مثلًا بين الماء والذهب، فأيّهما لاتستطيع العيش بدونه فهو الأغلى، والأعلى قيمة!

وهو مَن يستحق الحرص عليه، فالماء لايُقدَّر بثمن، ولايمكن الاستغناء عنه.

وهكذا قِس، على كل ما يستحق منك تسخير طاقتك ووقتك من أجل الحفاظ عليه في جميع مفاصل حياتك، حتى على صعيد ماترى وتسمع، وتتأمل وتكتب، وتنشر وتشارك، بل وأبعد من ذلك مَن تعاشِر مِن البشر، ومَن تساير، ومَن توالي ومَن تعادي! وهذه معادلة لاتَعِيها الّا العقول التي تقدّر النعم، وتحسَب لها حسابًا، وتخشى التفريط بضرورات العمر الجوهرية، ومايستحق الحرص والحفاظ عليه من مكتسبات الحياة المعنوية الراقية.

وللتقوى دور مهم جدًا في هذا المضمار، وهي المِفصل الدافع والمهم، في الحرص على الفكر والمعتقَد من التشتت والبعثرة، وللبصيرة دور آخر في الحفاظ على الرصيد الحقيقي، الذي هو رأس مال المرء، بدءًا من القول، ومرورًا بالفعل والتطبيق، وانتهاءً بالقرار المشفوع بموقفٍ معين، أو قناعة تُثبت معها الهدف الذي يحدّد مسار الأنسان السويّ الثابت. ومانشاهده اليوم من فوضى القناعات، وإقحامها عَمدًا أو جهلًا في القضايا المصيرية، كل ذلك يعبّر عن حالة من الإنفلات القيَمي، والتشتت الإجتماعي. ولعل مايلفت نظر المتَتبّع للأحداث، ظاهرة “الثقافة الإلتقاطية” “والعقل الجمعيّ” الذي يسوق صاحبه الى المِراء والعصبية، والإصرار على الخطأ، والتطرف في الرأي! وغالبًا مايفتقر الى حجّة أو دليل منطقيّ، عند الكثير من الناس والمثقفين منهم، لأنها لا تنبع من بنية فكرية أصيلة، بل من جمع عشوائي أو سطحيّ، يتبنى مظاهر سلوكية، أو شعارات فكرية، أو أساليب حياة مستوردة، بلا فهمٍ ولا عمق في الرؤية، وغالبًا لاتنسجم مع الهوية الأصلية، لذا تجده مستعدًا لركوب الموجة، واستغلال كل حدَث مثير، بلا تفكيرٍ بالنتائج، ومايتمخض عن ذلك من سلبيات. فمثل هذا النمط من الناس، هم في الواقع إمّعات كما عبر عن ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله بقوله:{لاتكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسنَ الناس أحسنّا، وإن ظَلموا ظَلَمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسَن الناس أن تُحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا}.

فلا يجب أن يكون الإنسان بمنأى عن إنسانيته، ولايُساق حسب توجيه منظمات مدنية، كما التي تدعو الى الجمع بين شعارات الحرية الفردية، وبين الدعوة إلى المطالبة بالحقوق، دون معرفة التعارض بينهما، ومايسبب من تفكيك في البنى الاجتماعية، وتسلُّق قيم دخيلة على المجتمع المسلم، فليحترم الانسان إنسانيته قبل الأندفاع، وليتأمّل قبل كل خطوة يخطوها.