محمد عبد الجبار الشبوط نحو استثمار رؤى الصدر في بناء الاقتصاد الحضاري في العراق تمهيد بعد أكثر من نصف قرن على صدوره، ما زال كتاب اقتصادنا يُعدّ أحد أبرز محاولات التنظير لاقتصاد إسلامي معاصر، بل هو العمل الأشمل من نوعه في الفكر الإسلامي الحديث، سواء من حيث العمق التحليلي أو السعة الاجتهادية أو الطموح النظري. لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم، في ظل التحديات الاقتصادية التي يواجهها العراق، وفي ظل المشروع البديل المتمثل بـ”الاقتصاد الحضاري”، هو: ما القيمة العملية لهذا الكتاب اليوم؟ وكيف يمكن إعادة قراءته وتفعيله ضمن مشروع الدولة الحضارية الحديثة (د.ح.ح)؟ أولًا: القيمة العملية لكتاب اقتصادنا تكمن الأهمية الاستعمالية لكتاب اقتصادنا في مجموعة من العناصر التي لا تزال حية وفعالة، رغم تغير السياقات التاريخية: 1. التأصيل الأخلاقي للاقتصاد في وقت يُعاني فيه الاقتصاد العراقي من فساد بنيوي وغياب للمنظومة القيمية، يقدّم اقتصادنا رؤية تدمج بين الاقتصاد والأخلاق، وتعيد توجيه النشاط الاقتصادي نحو خدمة الإنسان، لا عبوديته للسوق. هذه الرؤية تُمثّل ركيزة حيوية في أي محاولة لبناء اقتصاد حضاري لا يقوم على الربح المجرد، بل على الكرامة والعمل المنتج والعدالة الاجتماعية. 2. نقد النموذجين الرأسمالي والاشتراكي ما زال العراق عالقًا بين إرث اشتراكي (مركزي ريعي) ونموذج سوقي مشوّه تحكمه القوى المتنفذة والفساد. يوفر اقتصادنا أدوات تحليلية لنقد هذين النموذجين معًا، ويفتح أفقًا ثالثًا يجمع بين روح المبادرة الفردية، والضوابط الاجتماعية، والبعد الرسالي للنشاط الاقتصادي. 3. مفهوم المال والعمل والملكية يُعيد الصدر تعريف العلاقة بين الإنسان والمال، ويؤسس لفهم حضاري للملكية يقوم على الوظيفة الاجتماعية. هذا المفهوم يتقاطع بوضوح مع المبادئ التي تقوم عليها الدولة الحضارية الحديثة، والتي ترى أن الملكية ليست حقًا مطلقًا، بل مسؤولية مقيدة بالقيم والمصلحة العامة. 4. نقد الريع والتبعية رغم أن الصدر لم يستخدم مصطلح “الدولة الريعية”، إلا أن تحليله العميق لمسألة العمل والإنتاج والربح يحصّن ضد النزعة الريعية، ويحثّ على اقتصاد قائم على الجهد المنتج، لا على العائدات المجانية أو الصدقات النفطية. هذا أحد مفاتيح الخروج من أزمة الاقتصاد العراقي الحالية. ثانيًا: كيف نستفيد من اقتصادنا في بناء الاقتصاد الحضاري؟ لتحويل هذه الرؤية إلى أداة عملية في بناء الحياة الاقتصادية ضمن إطار الدولة الحضارية الحديثة، يمكن العمل على ما يلي: 1. إعادة قراءة الكتاب ضمن أفق حضاري لا فقهي ضيق ينبغي نقل اقتصادنا من حيز التنظير المذهبي إلى فضاء فكري–حضاري أوسع، باعتباره مساهمة عقلانية في تأصيل اقتصاد إنساني. وهذا يفتح المجال لتطوير نظرياته على ضوء علم الاقتصاد الحديث، دون الوقوع في فخ الجمود أو الحرفية. 2. استلهام مفهوم “القيمة” كأساس للسياسات الاقتصادية يُقدّم الصدر فهمًا عميقًا للقيمة بوصفها نتاجًا للعمل والرغبة والمنفعة الاجتماعية. هذا الفهم يُمكّن من صياغة سياسات اقتصادية تُفاضل بين القطاعات بحسب مردودها الإنتاجي والاجتماعي، لا بحسب الربحية فقط، وهو ما يُعد جوهر الاقتصاد الحضاري. 3. تطوير نظام تمويلي أخلاقي من خلال نظريته حول المال والربا والملكية، يمكن بناء نظام تمويلي تشاركي (لا ربوي)، يخدم التنمية من خلال أدوات كالصناديق الوقفية، والبنوك التعاونية، والشراكات المجتمعية، بدلًا من الارتهان للبنوك التجارية الربحية أو القروض الدولية المشروطة. 4. تعزيز العدالة في التوزيع يؤكد الصدر على العدالة بوصفها غاية مركزية، لا مجرد أثر جانبي للنمو. وهذا ينسجم تمامًا مع مبدأ الكفاية والإنصاف في الدولة الحضارية الحديثة، ويبرر فرض الضرائب التصاعدية، وسياسات إعادة التوزيع، وبرامج التكافل الاجتماعي المستدام. 5. إعادة الاعتبار للعمل المنتج في بيئة تُهيمن عليها ثقافة التوظيف الحكومي والبطالة المقنّعة، يُعدّ إحياء قيمة العمل المنتج كما عرضها الصدر خطوة جوهرية لإعادة بناء منظومة القيم الاقتصادية، وتفعيل روح المبادرة، وتشجيع الصناعات المحلية، وتعظيم رأس المال البشري. خاتمة: من اقتصادنا إلى الاقتصاد الحضاري اقتصادنا ليس مجرد كتاب، بل هو مشروع عقلاني–رسالي يتجاوز ظروف كتابته. وإذا ما قُرئ قراءة تأويلية حضارية، لا فقهية تقليدية، فإن محتواه يشكل موردًا غنيًا للمساهمة في بناء اقتصاد إنساني متوازن كما تطرحه الدولة الحضارية الحديثة. لقد آن الأوان لاستخدام هذا الإرث كأداة نهضوية، لا كمجرد وثيقة تراثية، وكرافعة فكرية لبناء اقتصاد عراقي جديد، يقوم على الإنتاج، والعدالة، والكفاءة، والكرامة. |