الدكتورة غدير سلام عارف في زوايا المجالس، حيثُ تُرتّب الكلمات كما تُرتب الأطباق، تُقام مأدبة خفية لا يُرى فيها خبزٌ ولا ملح، بل تُنصب فيها ألسنةٌ مسنونة كالسكاكين، وتُقدَّم الأرواح المكلومة أطباقًا على طاولة الكلام. هناك، لا يُذكر الغائب بطيب، ولا يُحفظ الحاضر بحُسن، بل يُنهش العرض كما يُنهش اللحم، وتُرمى الأخلاق على الأرض كقشور لا قيمة لها. ليست الغيبة مجرد «كلام عن الآخر في غيابه»، بل هي سلوك، خُلق ذميم يكشف عن معدن متآكل ونفس غير مأمونة. وحين تجتمع الغيبة مع سوء الخُلق، تُصبح المجالس ساحات هدم لا بناء، وأسواقًا للعار تُعرض فيها كرامات الناس بلا ثمن. أيّ قلبٍ يقبل أن يُقدَّم أخوه وليمةً؟! وأي خُلقٍ يسمح للسانه أن يُصبح خنجرًا مغروسًا في ظهر غافل؟ إن الغيبة وسوء الخلق لا يُفسدان العلاقة بالناس فقط، بل يمزقان نسيج الروح ويطفئان نور الإيمان في القلب. تحت هذه «المائدة»، تسقط هيبة الكلمة، ويُنسى أن كل ما يُقال سيُكتب، وأن اللحوم البشرية –كما قالوا– مسمومة، لكنها اليوم مأكولة بشهية! وهكذا، تبقى «مائدة اللحم البشري» رمزًا قاتمًا لحالة فقدان الأخلاق وغياب التقوى في المجالس، حيث تتحوّل الكلمات إلى خناجر، والحديث إلى ذنوبٍ تمضغ في الخفاء. قال الله تعالى:{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} إن الغيبة وسوء الخلق ليسا مجرّد انزلاقات لسان، بل هما مرآةٌ لخلل داخليٍّ في الوعي والضمير. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه». من واجبنا أن نحمي مجالسنا من هذا التلوث الأخلاقي، وأن نعيد بناء العلاقات على أسس الاحترام والستر والصدق. تجنب صداقة المغتاب ومصاحبته: فالصديق مرآة لصديقه تنعكس عليها خصاله سواء كانت حميدة أم ذميمة، ولنِعْم ما قاله بعض الحكماء: «إذا رأيت من يغتاب الناس فاجهد جهدك أن لا يعرفك، فإن أشقى الناس به معارفوه». |