محمد عبد الجبار الشبوط منذ عقود، روّج بعض المفكرين الغربيين، وتبعهم علمانيون في العالم الإسلامي، لفكرة أن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم إلا في ظل منظومة ثلاثية متكاملة: العلمانية، والرأسمالية، والديمقراطية. هذه الرؤية جعلت من الديمقراطية “تابعًا بنيويًا” لمنظومتين فكريتين واقتصاديتين غربيتين، الأمر الذي أدى إلى تعطيل إمكان تبيئة الديمقراطية في السياقات الإسلامية. غير أن التجربة التاريخية، والمنطق الحضاري، يُكذّبان هذه المقولة، ويفتحان الطريق لفهمٍ بديلٍ يتجاوز هذا الاشتراط التعسفي. أولًا: تفكيك الربط المصطنع بين الديمقراطية والعلمانية إن اشتراط العلمانية كقاعدة للديمقراطية هو في الأصل تعبير عن تجربة تاريخية أوروبية، نشأت من صراع الكنيسة مع السلطة السياسية والعلم. لكن المجتمعات الإسلامية لم تشهد صراعًا من هذا النوع؛ بل إن الدين، في كثير من مراحل التاريخ الإسلامي، كان مصدرًا للقيم الضابطة للمجتمع، وليس قوة قمع سلطوية. وعليه، لا ضرورة لفصل الدين عن المجال العام بقدر ما ينبغي فصل الدين عن التوظيف السياسي القهري. يمكن للديمقراطية أن تزدهر في مجتمع يحترم الدين كمنظومة قيمية عليا، دون أن يجعل من رجال الدين سلطة فوق الدولة. الديمقراطية لا تعني نفي الدين، بل تعني إشراك الناس في القرار، سواء كانوا متدينين أو غير متدينين. ثانيًا: الرأسمالية كعائق، لا كشرط الرأسمالية، في جوهرها، تقوم على مراكمة رأس المال، وتقديس السوق، وتمركز الثروة. بينما الديمقراطية تقوم على المساواة في القرار السياسي، وهو ما يتناقض مع تمركز النفوذ الاقتصادي. وقد بيّن ذلك بوضوح مقال غريس بليكلي “True Democracy Is Incompatible With Capitalism”، الذي أثبت أن الرأسمالية، خاصة في صيغتها النيوليبرالية، تُفضي إلى إضعاف الديمقراطية، لا إلى دعمها. التجربة الغربية نفسها تُظهر هذا التوتر: فكلما اشتد النفوذ الرأسمالي، تراجعت العدالة السياسية، وتزايد تأثير المال في الانتخابات، وتقلصت المشاركة الشعبية الحقيقية. ثالثًا: العراق أنموذجًا في العراق، وبعد عام 2003، جرى استيراد النموذج الديمقراطي الغربي، لا بوصفه آلية حكم فحسب، بل باعتباره رزمة فكرية تشمل العلمانية الاقتصادية والسياسية. لكن هذه المحاولة تعثرت، لا لأن المجتمع العراقي غير مؤهل للديمقراطية، بل لأن الشروط الاجتماعية والثقافية لم تُؤخذ بالحسبان. إن المجتمع العراقي ذو طابع ديني-قيمي، ويبحث عن صيغة تشاركية تُعبر عن هويته. دمقرطة العراق لا تمر عبر علمنته أو خصخصته بالكامل، بل عبر تمكين شعبه من المشاركة الفعالة على قاعدة القيم الحضارية الإسلامية والعدالة الاجتماعية. رابعًا: الديمقراطية الحضارية كبديل نقترح، بدلًا من الربط القسري بين الديمقراطية والعلمانية والرأسمالية، رؤية جديدة: الديمقراطية الحضارية. وهي ديمقراطية تنبع من القيم العليا للمجتمع (العدل، الشورى، الكرامة، الرحمة، التكافل)، وتُدار بآليات حديثة (الانتخابات، الفصل بين السلطات، الشفافية)، لكنها لا تنكر الدين، ولا تتماهى مع الرأسمالية. الديمقراطية الحضارية لا تُلزم الناس بالتخلي عن إيمانهم، ولا تجعل السوق هو الحَكَم في كل شيء، بل تضع الإنسان في المركز، بوصفه خليفة الله في الأرض، وفاعلًا مسؤولًا. خاتمة إن الإصرار على حصر الديمقراطية ضمن ثلاثية (العلمانية، الرأسمالية، الديمقراطية) هو موقف فكري غربي غير صالح للتعميم. بل إنه يعكس رؤية أيديولوجية أكثر منه ضرورة سياسية. الديمقراطية يمكن أن تنمو وتتجذر في بيئات غير علمانية، وغير رأسمالية، شريطة أن تُبنى على قاعدة المشاركة، والعدالة، والكرامة. ولذلك، فإن مستقبل الديمقراطية في البلدان الإسلامية لا يكمن في تبني النموذج الغربي كما هو، بل في تطوير نموذج حضاري بديل، يستلهم قيم الإسلام، ويستفيد من أدوات الحداثة، دون أن يُفقد الناس هويتهم، أو يُكرّس سلطة رأس المال. |