جليل هاشم البكاء حين تقع المآسي التي يكون ضحيتها أبرياء لا ذنب لهم، تهتزّ مشاعر أصحاب الضمائر الحرة، ويتألّم الشرفاء الذين ما زالوا يحملون في قلوبهم إنسانية حقيقية وقيماً نقيّة. فكيف إذا كانت تلك المصائب ناتجة عن الفساد والإهمال، وتضرب في بيئات يُفترض بها أن تكون آمنة، تحمي الناس وتوفر لهم فرصًا للعيش الكريم؟ كما حدث في فاجعة حريق مدينة الكوت. إن الإنسان الحر لا يقف متفرّجًا، ولا يدفن رأسه في الرمال، بل يتألم ويتفاعل، ويشعر بثقل المسؤولية الأخلاقية تجاه المظلومين، خصوصًا في الأزمان والأماكن التي استفحل فيها الفساد واستشرى فيها الفشل الإداري والمؤسساتي، ليجعل من حياة الأبرياء مرهونةً بالعشوائية والمصالح الضيقة. ومع كل التعاطف الصادق الذي أبداه الناس مع أهالي الضحايا ومع كل مأساة مشابهة، علينا أن نُفرّق بوضوح بين الموقف الإنساني الصادق، وبين أولئك الذين يستغلّون المصائب لتصفية حساباتهم، سياسيًا كان ذلك أم اجتماعيًا. فهؤلاء لا يقلّون قبحًا عن الفاسدين المباشرين، بل إنهم يمارسون نوعًا آخر من الفساد، أقذر وأشدّ خيانة، لأنه يتحدث بلغة الأخلاق ويخفي خلف الشعارات نواياه الخبيثة. نعم، قد تكون هذه الكوارث من نتائج الفساد أو الجريمة، ولكنها أيضًا قد تحدث في أي زمان ومكان، وهنا يأتي دور الضمير المجتمعي الواعي الذي لا يكتفي باللوم، بل يعمل على توعية الناس، ودفعهم إلى رفض التعامل مع أي مشروع أو مؤسسة لا تضمن لهم الحد الأدنى من الأمان والثقة. ويجب أن تتحوّل هذه المآسي إلى فرصة لإعادة النظر في ثقافتنا الاستهلاكية والعملية، لنقاطع المشاريع المشبوهة، لا كموقف انفعالي، بل كموقف وطني وإنساني ثابت. ومن هذا المنطلق، يجب أن يُلزم القانون أصحاب المشاريع التجارية والخدمية الكبرى بتعليق وثائق السلامة والأمان بشكل واضح وبارز للزبائن والروّاد، وأن تكون هناك رقابة فعلية تتابع التزامهم بهذه المعايير، وأن يُمنع تشغيل أي مرفق أو مبنى لم يستكمل اشتراطات السلامة الصارمة. بهذا النهج الواقعي والعملي، ننتزع الخطاب من أدعياء المثالية وننقله إلى حيّز الفعل والإصلاح، فلا نبقى أسرى العبارات الرنّانة التي لا تغيّر من واقع الفساد شيئًا. الإصلاح الحقيقي يبدأ من تحمّل المسؤولية، ومن تحميل المسؤوليات لكل من يتسبب أو يتغاضى أو يشارك في تحويل الحياة إلى خطر يومي. فلتكن فاجعة مدينة الكوت صوتًا صارخًا بوجه الفساد، لا وسيلة بأيدي الانتهازيين. ولنُحرم أدعياء المثالية من استغلال الآلام، بتحويل الألم إلى وعي، والغضب إلى موقف، والمأساة إلى دافع للتغيير الحقيقي. |