نزار الحبيب كتب بأسلوب يجمع بين النَفَس العميق والتحليل العلمي المستند إلى القراءة الاستراتيجية للتوازنات العالمية: في تاريخ الإمبراطوريات، غالباً ما يكون لحظة السقوط الكبرى ناتجة عن ثقة مفرطة وقرارات مبنية على أوهام السيطرة المطلقة، لا على قراءة دقيقة للواقع. واليوم، يبدو أن الغرب – بقيادة واشنطن – يكرر ذات الخطأ الكلاسيكي الذي ارتكبته القوى العظمى عبر العصور: تصديق الأكاذيب التي يصنعها بنفسه. أولاً: الفخ الأمريكي في أوكرانيا الولايات المتحدة، منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، تبنّت فكرة أنها تستطيع استنزاف روسيا دون أن تخسر شيئًا. فدَعمت كييف بالمال والسلاح، ودخلت المعركة نيابة عن الناتو، معتقدة أن موسكو ستنهار تحت الضغط. لكن الواقع مختلف. روسيا لم تنهَر، بل أعادت ضبط اقتصادها العسكري، ووسّعت نفوذها الجيوسياسي شرقاً وجنوباً، وربطت أمنها القومي بسلسلة تحالفات لا يمكن تجاهلها (مع الصين، إيران، كوريا الشمالية، دول إفريقية). أما أميركا، فهي تخوض حربًا طويلة تُنهكها اقتصاديًا، وتفقد معها هيبتها الأخلاقية والاستراتيجية. لقد نصبت واشنطن الفخّ لنفسها، عبر تضخيم أوكرانيا إلى حجم لا يمكن دعمه طويلاً، وغضّ الطرف عن المشهد الحقيقي الذي تفرضه الجغرافيا والتاريخ. ثانياً: أوروبا… شريك لا يفهم الثمن أما أوروبا، فهي اليوم الضحية الأوضح للمخطط الغربي. فقد قطعت علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، ووقعت رهينة للغاز الأميركي والأسلحة الأميركية والقرارات الأميركية. ظنّ ساستها أن روسيا ستُهزم، وأنهم سيرثون أسواق الطاقة الروسية ويكسبون صفقات إعادة إعمار أوكرانيا. لكن الذي حدث هو العكس تماماً: • خسرت أوروبا طاقتها الرخيصة. • تراجعت صناعاتها الثقيلة. • وانهار نموذج الرفاه الاقتصادي الذي حافظت عليه لعقود. اليوم، تقف أوروبا على أعتاب شتاء سياسي واقتصادي طويل، والشرخ بينها وبين واشنطن يتسع بهدوء خلف الكواليس. ثالثاً: تركيا… النهاية البطيئة لأردوغان تركيا ليست خارج هذا المشهد، بل هي جزء منه. أردوغان الذي ظنّ أنه رقم صعب في اللعبة الدولية، بات اليوم محاصراً داخليًا: • اقتصادٌ مترنّح. • بنية سياسية تهترئ. • وشعب يزداد سخطًا من لعبة التوازن بين روسيا والناتو. أما خارجيًا، فتركيا فقدت أوراقها في سوريا، وارتبكت في ملفات البحر المتوسط، وأحرقت الكثير من الجسور في العالم العربي بعد أن انكشف مشروع الإخوان المسلمين كغطاء للفوضى الخلاقة. النهاية قد لا تكون انقلاباً عسكرياً أو ثورة شعبية… بل نهاية ناعمة بطيئة، تُقصي أردوغان من المشهد، وتُجبر أنقرة على إعادة تعريف دورها بعيدًا عن العثمانية السياسية التي فشلت في التمدد مجددًا. رابعاً: ترامب… الكذبة التي صدّقها صانعها وفي قلب هذه المسرحية الغربية، يظهر دونالد ترامب كرمز واضح للخلل البنيوي في المنظومة الغربية. رجل بنى رؤيته السياسية على الكذب والشعبوية والإنكار، ويستعد للعودة إلى البيت الأبيض في مشهد يعكس فشل المؤسسة الأمريكية في إنتاج بديل عقلاني. ترامب لا يُشكّل خطرًا على الديمقراطية الأمريكية فقط، بل على التوازن العالمي كله، لأنه ببساطة يؤمن أن الكذب حين يُكرَّر، يصبح حقيقة. وهذا هو لبّ المأساة: حين يبدأ المخطط الغربي بتصديق خرافاته الاستراتيجية. النتيجة : إن ما نشهده اليوم هو عودة التاريخ لا بطريقة متكررة، بل أكثر تهكمًا: • الإمبراطور الذي ظنّ نفسه يُمسك بالخيوط، يجدها تلتف حول عنقه. • والغرب الذي صدّر للعالم مفاهيم “النظام”، يتجه بنفسه إلى الفوضى. فليست هذه إلا البداية… والباقي مرهون بالتحولات التي يصنعها الشرق الصاعد، والمحيط المتمرد، والشعوب التي لم تعد تثق بمن يدّعي حمايتها بينما ينهبها باسم الديمقراطية. |