محمد عبد الجبار الشبوط أطلق البنك الدولي مؤخرًا تحذيرات جديدة تتعلق بمستقبل الدول الريعية، وفي مقدمتها العراق، في ظل التغيرات المتسارعة في سوق الطاقة العالمية، والضغوط المتزايدة على المالية العامة، والاعتماد المفرط على مورد واحد لا يضمن الاستدامة: النفط. لم تكن هذه التحذيرات مفاجئة، لكنها أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، في ظل متغيرات كبرى تُعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي: التوجه نحو الطاقة البديلة، ارتفاع مستويات الديون، التحول الرقمي، ومخاطر تقلبات السوق العالمية. السؤال الذي يجب أن يُطرح بقوة: هل نملك استراتيجية شاملة لعبور هذه المرحلة الحرجة؟ جوابي هو: نعم، بشرط الانتقال السريع والمنهجي من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الحضاري. ما هو الاقتصاد الريعي؟ ولماذا هو خطر مستدام؟ الاقتصاد الريعي هو النظام الذي يعتمد على مورد طبيعي واحد (مثل النفط)، يوفر للدولة دخلاً كبيرًا دون أن يترافق مع إنتاج فعلي أو نشاط اقتصادي متنوع. ورغم أن هذا النوع من الاقتصاد قد يمنح مظهرًا من الاستقرار المؤقت، إلا أنه يُنتج مجموعة من الأعراض المرضية، منها: • ضعف الإنتاج الوطني الحقيقي • اعتماد مفرط على الإنفاق الحكومي • ترهل القطاع العام وغياب الابتكار • تفشي الفساد المرتبط بتوزيع الريع • ضعف علاقة المواطن بالدولة كمساهم وفاعل وهذه الأعراض لا تهدد الاقتصاد فقط، بل تقوّض شرعية الدولة واستقرارها الاجتماعي والسياسي. لماذا نطرح الاقتصاد الحضاري بديلاً؟ الاقتصاد الحضاري هو البديل الذي أنادي به منذ سنوات، وهو لا يقتصر على استبدال الريع بالإنتاج فحسب، بل يقوم على رؤية قيمية–تنموية متكاملة، تدمج بين: 1. العمل المنتج باعتباره أساس القيمة الاقتصادية. 2. العدالة في التوزيع كشرط للاستقرار الاجتماعي. 3. الإنسان كغاية ووسيلة في التنمية. 4. المعرفة والابتكار بوصفهما عماد الاقتصاد. 5. الانسجام مع البيئة وضمان استدامة الموارد. 6. الشراكة بين الدولة والمجتمع في الإنتاج والرقابة. بمعنى آخر، الاقتصاد الحضاري لا يبحث فقط عن “المورد البديل”، بل يُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان، والثروة، والعمل، والقيمة، والدولة. تحذير البنك الدولي… دعوة إلى التحول البنيوي تحذيرات البنك الدولي الأخيرة يمكن أن تُفهم بطريقتين: • إما كتقرير تقني إضافي يُضاف إلى أرشيف الوثائق المهملة. • أو كمناسبة تاريخية لإعادة بناء العقد الاقتصادي–الاجتماعي للدولة. وأنا أرجّح الثانية، شريطة أن نتعامل مع هذه التحذيرات باعتبارها “علامة إنذار مبكر” تتطلب: • إصلاحات ضريبية عادلة وفعالة • تنويع مصادر الدخل خارج النفط • تحفيز القطاعات الإنتاجية (الزراعة، الصناعة، التقنية) • دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة • تحرير الطاقات البشرية من أسر الوظيفة الريعية • بناء منظومة تعليمية مرتبطة بسوق العمل من الريعية إلى الحضارية: ليست مجرد سياسة، بل رؤية الانتقال إلى الاقتصاد الحضاري لا يمكن أن يتم عبر سياسات قطاعية متفرقة، بل يتطلب رؤية حضارية شاملة للدولة والمجتمع. رؤية ترى في الإنسان عنصرًا فاعلًا، وفي الأرض موردًا مشتركًا، وفي الزمن فرصة لا تُعوّض، وفي العمل قيمة أخلاقية، وفي العلم محركًا حقيقيًا للتقدم. هذه هي مرتكزات الاقتصاد الحضاري كما أفهمه وأدعو إليه: اقتصاد قائم على الإنسان، الأرض، الزمن، العلم، والعمل، وهي عناصر المركب الحضاري الذي يمثل جوهر مشروعي الفكري المعروف باسم الدولة الحضارية الحديثة. خاتمة: من التحذير إلى الفرصة تحذير البنك الدولي لا ينبغي أن يُدخلنا في حالة ذعر، بل ينبغي أن يكون فرصة تاريخية لإعادة تشكيل اقتصادنا على أسس جديدة. وقد آن الأوان أن نتجاوز ردود الفعل الظرفية، وننتقل إلى تفكير استراتيجي جذري يؤسس لعقد اقتصادي–حضاري جديد، لا يعتمد على الصدفة أو السوق، بل على الإرادة والوعي والبناء التراكمي. التحول من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الحضاري لم يعد ترفًا فكريًا أو طموحًا مؤجلًا، بل حاجة وجودية عاجلة لدولة تريد أن تبقى، وشعب يريد أن ينهض، واقتصاد يريد أن يتنفس خارج أنبوب النفط. |