د. محسن العكيلي
في زمن الهرولة نحو التطبيع، والتضليل الإعلامي المتعمد، يتساءل البعض: لماذا تدافعون عن إيران؟ سؤال يتكرر كثيرًا، وغالبًا ما يُطرح من باب التهجم أو التهوين، لكنه في حقيقته يكشف عن غياب الوعي بطبيعة المعركة الكبرى التي تخوضها شعوبنا. الإجابة المختصرة والواضحة هي: نحن لا ندافع عن إيران كدولة بقدر ما ندافع عن أنفسنا، عن حاضرنا ومستقبلنا، عن قضية أمتنا المركزية في فلسطين، وعن حقنا في المقاومة والكرامة والسيادة. الكيان الصهيوني لم يكن يومًا “دولة” تقف عند حدود جغرافيا فلسطين، بل هو مشروع استيطاني توسعي عقائدي، يهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح الاحتلال وأحلام “إسرائيل الكبرى”. ولعل أخطر ما في هذا المشروع أنه لا يحتاج لاحتلال مباشر دائم، بل يكفيه أن يُخضع المنطقة اقتصاديًا وسياسيًا وإعلاميًا، ويجعل من شعوبها أسواقًا مستهلكة، ومن أنظمتها أدوات تنفيذ لا أكثر. وهنا، يصبح أي كيان أو دولة أو جهة تقف في وجه هذا المشروع، عدوًا استراتيجيًا لإسرائيل، ويُدرج فورًا على لائحة “التهديدات الوجودية”. الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومنذ انبثاقها كثورة مقاومة وموقف، اختارت أن تقف إلى جانب فلسطين، لا بالمواقف الخطابية فقط، بل بالدعم العملي الحقيقي. لم تتخلّ عن غزة تحت الحصار، ولم تترك المقاومة في لبنان في عز الحرب، ولم تتراجع عن دعم سوريا والعراق واليمن حين تكالبت عليها قوى العدوان والاحتلال والإرهاب. في المقابل، تساقطت أنظمة عربية واحدة تلو الأخرى تحت أقدام “الصفقات الإبراهيمية”، وراحت تبحث عن أمنها في كنف الاحتلال، لا في كرامة شعوبها. ومع ذلك، لم تُكافأ هذه الأنظمة بالتقدير، بل بالابتزاز والإذلال، لأن الكيان الصهيوني لا يحترم الضعفاء، ولا يرى في المطبّعين حلفاء بل أدوات مؤقتة سرعان ما يتم الاستغناء عنها. تجربة سوريا كاشفة جدًا. فقدّم بعض القادة الميدانيين كل أوراق التنازل والعمالة، وعلى رأسهم الجولاني، لكن ذلك لم يمنع إسرائيل من أن تهاجم العمق السوري، وتقصف معامل الأسلحة، وتدمر البنية التحتية، بل وتتموضع في الجنوب السوري كقوة عسكرية ثابتة. وهذا يثبت من جديد: لا حصانة للعملاء، ولا احترام للمطبّعين. للأسف، فإن أحد أخطر أدوات هذا المشروع الصهيوني هو إذكاء نار الفتنة الطائفية والمذهبية، لتشتيت وعي الأمة، وتوجيه بوصلتها نحو صراعات داخلية عبثية، بدلًا من توحيدها في وجه عدوها الحقيقي. وهكذا، بدل أن يُحاكم العدو الصهيوني على جرائمه، يُدان من يقاومه. وبدل أن يُسأل المطبعون عن خياناتهم، يُهاجم المقاومون بحجة الطائفية. فهل أصبح الحقد المذهبي أغلى من فلسطين؟ وهل صار الانتماء الطائفي هوية تُقدم على هوية الأمة وقضيتها؟ إن وقوفنا إلى جانب إيران ليس موقفًا عاطفيًا، ولا تحركًا مصلحيًا، بل هو انحياز واعٍ للموقع الذي يُقاتل من أجل الأمة لا عليها، للموقف الذي يدفع الثمن بدل أن يقبض الثمن، للمعسكر الذي ما زال يرى في فلسطين بوصلة، وفي “إسرائيل” عدوًا، لا شريكًا اقتصاديًا أو حليفًا أمنيًا. قد يختلف البعض مع سياسات إيران، أو مع بعض مواقفها، وهذا طبيعي. لكن ما لا يمكن إنكاره هو أنها القلعة الأخيرة التي تقـــف بوجه المشروع الصهيوني، وأن سقوطها لا سمح الله، يعني سقوط ما تبقى من روح المقاومة في هذه الأمة. فلنُسمّ الأمور بأســـمائها: نحن لا ندافع عن إيران، نحن ندافع عن أنفسنا، عن كرامتنا، عن وجودنا، عن أطفالنا ومستقبلهم، عن أمتنا التي تُحاصرها الخيانة من داخلها، ويحاول العدو ابتلاعها قطعةً قطعة. |