الدكتورة ربى ابراهيم نعمة لم يعد من الممكن فصل العمل الفني عن سياقاته الثقافية والاجتماعية، بل أصبح من الضروري تأمل النتاج التشكيلي بوصفه خطابًا ثقافيًا يعكس أنساقًا فكرية وقيمية تتجاوز الجماليات الظاهرة. وهنا تبرز أهمية النقد الثقافي كأداة تحليلية تكشف ما هو مستتر خلف التكوينات البصرية، وتفسّر كيفية إنتاج المعنى داخل العمل الفني. يتعامل النقد الثقافي مع الفنون التشكيلية لا على أساس تذوقي بحت، بل باعتبارها تمثيلات رمزية لثقافة المجتمع، تتقاطع فيها عناصر الهوية، والسلطة، والاقتصاد، والنوع الاجتماعي، وغيرها من الأنساق الثقافية. وفي هذا الإطار، تصبح اللوحة أو المنحوتة أو أي نتاج بصري معاصر مادة قابلة للتحليل بوصفها خطابًا يحمل بنية أيديولوجية مضمرة، قد تعكس التحيّزات أو تعيد إنتاجها. أن النقد الثقافي يتجاوز النقد الجمالي التقليدي، إذ لا يكتفي بتحليل الشكل والمضمون، بل ينفذ إلى الطبقات الأعمق من النص أو العمل، كاشفًا عن الأنساق التي تتحكم في إنتاجه واستقباله. ويشير إلى أن أهمية هذا النوع من النقد تكمن في كونه يقرأ النصوص والخطابات ضمن سياقاتها الإنتاجية، ويُبرز القيم الثقافية الكامنة فيها، سواء أكانت تلك القيم مهيمنة أم هامشية. أما الغذامي فيسلط الضوء على مفهوم «النسق المضمر» بوصفه جوهر الممارسة النقدية الثقافية. فالعديد من الأعمال الفنية، بحسب رؤيته، تخفي أنساقًا ثقافية تحت قناع الجمال، وتعمل وفق مبدأ «التعمية الرمزية»، بحيث تُمرر قيم ومعايير معينة دون مساءلة، مما يجعل الجمالي أداة لتكريس ثقافة مهيمنة أو إخفاء تناقضات الواقع. في ضوء ذلك، يتطلب النقد الثقافي للفن التشكيلي وعيًا مزدوجًا: الأول جمالي وتقني لفهم أدوات التعبير، والثاني سوسيولوجي وأنثروبولوجي لتفكيك العلاقة بين العمل الفني وبنية المجتمع. فالفنان المعاصر، في ظل انفتاحه على تيارات الحداثة وما بعد الحداثة، لم يعد مقيدًا بأسلوب أو مدرسة، بل بات يعبر عن رؤى متغيرة تتماشى مع تحولات العالم، ما يجعل خطابه البصري مشحونًا بالأسئلة، والدلالات، والرموز. من هنا، تتحول اللوحة التشكيلية إلى فضاء للجدل الثقافي، يتفاعل فيه الفنان مع قضايا متعددة: من الهوية، إلى العولمة، إلى النزعة الاستهلاكية، إلى قضايا المهمّشين والمُقصيين من دوائر السلطة الثقافية. والناقد الثقافي، في هذا السياق، لا يكتفي برصد الجماليات البصرية، بل يعمل على تفكيك رموز العمل الفني، وربطه بالبنى الأيديولوجية والاجتماعية التي أنتجته. إن ممارسة النقد الثقافي داخل الفضاء التشكيلي تساهم بشكل فعّال في تشكيل وعي نقدي جديد، يُعيد الاعتبار للقيم الثقافية التي يحملها العمل الفني، ويعزز من قدرة الفنان على التأثير المجتمعي. كما تمنح هذه الممارسة فرصة لتأطير الفن المحلي ضمن سياق معرفي أوسع، يراعي التحولات العالمية دون التفريط بالخصوصية الثقافية. وفي ظل تزايد الدور الإعلامي والدعائي في توجيه الذوق العام، تظهر الحاجة الماسة إلى صوت نقدي مثقف قادر على تفكيك الرسائل الخفية داخل الخطاب البصري، ومواجهة محاولات الهيمنة الرمزية التي تُمارَس أحيانًا باسم الفن أو الجمال. فالنقد الثقافي، في جوهره، ليس مجرد قراءة، بل موقف فكري وإنساني يسعى إلى العدالة الرمزية، ويطمح إلى فضح الأنساق المستترة وتحرير الذائقة من سلطة المُسلَّمات. |