عامر الطائي عجيبٌ أمر النفس البشرية، فهي ميدانٌ تتصارع فيه الأهواء والعقول، وتتصادم فيه الدوافع والشهوات، حتى ليحار الإنسان في أمرها، أيقودها أم تقوده؟ أيسير بها إلى نور الحق أم تدفعه إلى غياهب الباطل؟ وهنا، في هذا المتاهة العظيمة، يأتينا صوت الإمام زين العابدين عليه السلام، صوت الحكمة والبصيرة، ليكشف لنا أسرار هذه النفس، وليحذرنا من الخدع التي تتزين بها المظاهر، فكم من رجلٍ يُرى في ثوب التقى وهو للباطل عبد! يبدأ الإمام بوصف دقيق للمتظاهرين بالصلاح، أولئك الذين يتصنعون الخشوع في الكلام، ويتكلفون التواضع في السلوك، حتى يخدعوا الأبصار والقلوب. لكنّه يحذرنا، فلا ينبغي أن ننخدع بالمظهر، لأنَّ من الناس من يكون ضعيفًا لا يقوى على مجاراة الدنيا وملذاتها، فيلبس رداء الدين لا تدينًا، بل لأنه لا يملك الجرأة على ركوب الحرام! فإذا ما واتته الفرصة، ألقى بقناعه واقتحم المحرمات بلا تردد. ثم يأخذنا الإمام إلى مستوى أعمق من الفهم، فليس كل من عفّ عن المال الحرام تقيًا، لأنَّ شهوات البشر مختلفة، فقد يزهد أحدهم في المال لكنه يقع في شهواتٍ أخرى أشد خطرًا. فالعبرة ليست في مجرد ترك الحرام، بل في دوافع الترك، وهل هو عن وازعٍ من تقوى أم لمجرد أن شهوته في أمرٍ آخر؟ ومع ذلك، لا يكفي أن يكون الرجل عفيفًا، بل يجب أن يكون عاقلًا. فكم من زاهدٍ في الدنيا، بعيدٍ عن الشهوات، لكنه بلا عقلٍ يرشده، فيفسد أكثر مما يصلح! العقل هنا هو الميزان، لكنه وحده أيضًا لا يكفي، بل يجب أن نرى: هل هذا العقل يقود صاحبه، أم أن هواه يقود عقله؟ وهنا يكشف الإمام عن مرضٍ خفيٍّ خطير، وهو حب الرئاسة الباطلة. فمن الناس من يزهد في الدنيا، لكنه يفني حياته في طلب المجد الفارغ، فلا يأبه لدينه إن كان ثمنًا لرياسته، حتى إذا نُصح أخذته العزة بالإثم، فكان مثواه جهنم. هذه النفس البشرية، التي وصفها الإمام بدقة العارف، قد تكون سلمًا إلى الجنة أو دركًا إلى الجحيم، وما الرجل الحق إلا ذاك الذي جعل هواه تبعًا لأمر الله، وقواه مبذولةً في طاعته، يرى الذل في الحق أعزَّ من العز في الباطل، ويعلم أن نعيم الدنيا زائل، لكن عذاب الآخرة باقٍ لا ينقطع. هذا هو الرجل الذي يستحق أن يكون إمامًا للناس، يُتمسك به ويُقتدى بسنته، فهو في دنياه نور، وفي دعائه شفاعة، وفي اتباعه فوزٌ لا يُخيب. وهكذا، يعلمنا الإمام زين العابدين عليه السلام درسًا عظيمًا: لا تَغترّوا بالوجوه، ولا تخدعكم المظاهر، بل فتشوا في القلوب، وامتحنوا العقول، وتأملوا الأفعال لا الأقوال. فالعبرة لمن اعتبر، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من ركب هواه حتى أورد نفسه المهالك. |