أمين السكافي أنه عام الفيل، يوم حشد أبرهة جيشه ويمم شطر مكة قاصدًا الكعبة المقدسة لهدمها. كان ضمن جيشه أعداد من الفيلة، لذلك لقب هذا العام بعام الفيل. في هذا الوقت، وفي أحد بيوت مكة، كانت السيدة الجليلة آمنة على وشك أن تضع مولودها الذي كانت الصحراء تنتظر مجيئه، والبيت العتيق، والسماء، وجبال مكة، والإنس والجان، والشجر والحجر. اهتزت عروش كسرى وقيصر والمناذرة والغساسنة حتى الأفيال القادمة لهدم الكعبة خرت خاشعة، فالقادم أعظم بني البشر وسيد الخلق بكل ما يحتويه الخلق، وحبيب رب السماوات والأرض والكون مهما اتسع. يا له من حمل مبارك تسعة أشهر، وآمنة تحمل في داخلها شخصية لم يكن لها مثيل في التاريخ ولن يكون لها في المستقبل حتى قيام الساعة. أبرهة وقصته مع عبد المطلب معروفة، وإصراره على هدم الكعبة رد عليه جد المصطفى بكلمة أن للبيت رب يحميه. وهذا ما كان، فكانت طيور الأبابيل التي رمتهم بحجارة من سجيل، ففرقت شملهم وبددت جمعهم. كان للطفل المبارك أن يولد في سلام، ولتبدأ معه مسيرة ستغير التاريخ البشري إلى الأبد. أطلق على يتيم الأب هذا اسم محمد، وصفات كثيرة اكتسبها خلال نشأته، منها الصدق والأمانة والرحمة والزهد واللين والكرم والشجاعة وغيرها الكثير من الصفات المحمودة. كبر وحيدًا، فقد توفيت والدته وهو في السادسة، وبقي في كنف جده حتى وفاته. عندها كفله أبو طالب وزوجته فاطمة، وكانوا من أحن الناس عليه، وأغدقوا عليه العطف والحنان والحب. لم يسجد لصنم خلال نشأته، ولم يعاقر الخمر، ولم يرتكب أية كبائر أو صغائر. رعى الغنم شابًا صغيرًا ومارس التجارة عندما شب عن الطوق، ومن هنا تعرف إلى سيدة الطهر خديجة، أحب أمهات المؤمنين إلى قلبه. وطلبها للزواج فوافقت، وأسسا معًا بيت النبوة الزوجية، وأنجبت له رقية وزينب وأم كلثوم، وهدية الله إليهما أم أبيها فاطمة، سيدة نساء العالمين. أما الصبية فهم ثلاثة: القاسم والطاهر والطيب، وقد توفوا صغارًا، ولحكمة لا يعلمها إلا الله، وليكون نسله حكراً على أبناء وبنات فاطمة من ابن عم الرسول الأعظم علي بن أبي طالب، الذي تربى في بيت النبوة ونشأ على يدي سيدي أبوالقاسم وسيدتي خديجة. للأمانة الموضوعية ولكلمة حق تقال، فأنا لأول مرة أشعر بالرهبة وأنا أكتب عن أحد، فكيف إذا كان سيد المرسلين. أخاف أنني مهما كتبت فسأبقى مقصرًا بحقه، فليعفوا عن تقصيري غير المقصود، إلا أنني بشر أخطئ وأصيب. هناك في الغار، حيث كان يحلو لمحمد أن يجلس بالساعات وأحيانًا بالأيام، وقد أصبح رجلًا في الأربعين من عمره، يحب أن يختلي بنفسه في غار حراء ويتفكر في خلق الله. هبط عليه الملاك جبريل، ولأول وهلة أحس النبي بشعور غريب يراوده، فمن هذا وما هو ومن أين أتى، ولكن كانت “اقْرَأْ” فقال الحبيب: “ما أنا بقارئ”. فأعادها عليه وجاءه نفس الرد: “ما أنا بقارئ”. هنا جاءت الإجابة والأمر أن قال تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق: 1-5]. فكانت الرسالة المحمدية التي سيحملها ويجاهد لنشر دعواه ما بقي له من العمر. بدأت العلاقة مع جبريل كوسيط من الإله الأعظم يحمل له سورًا وآيات من القرآن الكريم، الكتاب المقدس والمحفوظ من رب السماء، وكانت الدعوة الإسلامية. حملها النبي محمد بكل صدق وأمانة، فكان لخديجة السبق بين النساء كأول امرأة تسلم لله، كما كان لعلي أن يكون أول الفتيان ليشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. وليحمل مع ابن عمه وأبيه وأخيه الروحي الذي تربى على يديه عبء هذه الدعوة من لحظة انطلاقتها حتى لحظة استشهاده. طبعًا، لم تكن طريقه مفروشة بالورود، فأجلاف قريش وكفارها لم يتركوا طريقة لإيذائه إلا وفعلوها، وهو يعبر عن تلك الأيام بقوله: “ما أوذي نبي كما أوذيت”. ولم تتوقف الأذية عنده، بل طالت المسلمين تعذيبًا وتنكيلاً وقتلاً، حتى أمرهم بالهجرة مرتين إلى الحبشة هربًا بحياتهم ودعوتهم. وبقي هو في مكة يتحمل مع من بقي أصناف العذاب، إلى أن أتى أمر الله بالهجرة إلى المدينة، ونوم ابن عمه في فراشه خوفًا عليه من القتل، وحتى يستطيع الخروج باتجاه المدينة آمنًا مطمئنًا. التتمة في المقال المقبل. |