احمد البديري الحرية مفهوم متعدد الرؤى والدلالات ، فكل يفهم الحرية على شاكلته ، وبما يناسب منظومته او ايديولوجيته الفكرية والعقدية . أن اختلاف التأويلات حول هذا المفهوم جعلت من الصعب الاتفاق على تفسير واضح للحرية ، ولكي نفهم معناها العام والاساسي لا بد من الرجوع الى قادة الاسلام النبي الاكرم واهل بيته (صلوات الله عليهم) وورثة علومهم من العلماء العاملين ، وكذلك مراجعة ما كتبه أهل الفكر من المدارس الانسانية المختلفة ، لنتعرف من خلال توصيفاتهم على ماهيتها ومفهومها وأنماطها وحدودها ، وبالتالي محاولة الوصول الى المعنى الحقيقي للحرية . ربما كان أشهر نص اسلامي حول مفهوم الحرية هو ما روي عن الامام علي (ع) في قوله ( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً ) ، والحرية انطلاقا من حكمة الامام هي الانعتاق من عبودية الغير ، لأن الله تعالى خالق الانسان لم يجعل لأي كائن سلطة لاستعباد الانسان ، وان تلك الحرية لا يمكن لاحد ان يسلبها حتى لو أستخدم كل اساليب الظلم والعنف ، لأن الخضوع الاضطراري والاجباري لسلطة وقبضة الظالمين تبقى مقيدة بحدود جسد الانسان ، ولا تخضع قواه او ارادته العقلية للاستعباد القسري ، لأن عقل الانسان لا يمكن ان يسلب من دون ارادته ، ولكن ذلك يحتاج ايضاً الى مقاومة وصلابة وصبر ، ويوضح الامام علي (ع) هذه النظرية بقوله : (الحر حر وإن مسه الضر) . ومن معاني الحرية التي تسمو بالإنسان هي السيطرة على الغرائز وعدم فسح المجال لعنان النفس بالانغماس في تيار الشهوات الذي يحط من قسمة وقدر الانسان وإنسانيته ، ويروى عن الإمام علي (عليه السلام) بهذا الصدد قوله : من ترك الشهوات كان حرا) . اما نظرة الفكر الاسلامي الى مفهوم الحرية فيعبر عنها السيد محمد باقر الصدر (رض) في كتابه المدرسة القرآنية وهو لا يكتفي ببيان الرؤيا الاسلامية للحرية وإنما يوضح الفرق في فهم الحرية والتباين في دلالاتها وتطبيقاتها ومجلاتها مع الحضارة الغربية فيقول : ( الإسلام والحضارة الغربية، وان مارسا معا عملية تحرير الإنسان، ولكنهما يختلفان في القاعدة الفكرية التي يقوم عليها هذا التحرير. فالإسلام يقيمها على أساس العبودية لله والايمان به والحضارة الغربية تقيمها على أساس الايمان بالإنسان وحده وسيطرته على نفسه، بعد أن شكت في كل القيم والحقائق وراء الابعاد المادية لوجود الإنسان). وهذا الاختلاف الذي يشخصه السيد الصدر بين الحضارتين الاسلامية والغربية هو اختلاف جذري قائم بالأساس بالنظر الى الخلفية الروحية للحضارة الاسلامية مقابل الخلفية المادية المحضة للحضارة الغربية ، والى أصل التشريعات والقوانين العلمانية لبلدانها والتي هي على عكس الشعارات التي يتبجحون بها حول الحرية كقولهم (حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين) ، فان تلك الحرية وتحت مزاعم موافقتها لقوانينهم الازدواجية لا تتوانى عن إهانة مقدسات الاسلام ورموزه الدينية كحرق وتمزيق نسخ القرآن الكريم ، والاساءة لشخص النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) برسوم كاريكاتيرية أو روايات ادبية او افلام سينمائية ، او إهانة كيان الانسان وكرامته بقوانين همجية تحت لافتة الحرية لتشرع زواج الشذوذ الجنسي وغيرها من التشريعات المنحطة ، بينما تمارس أشد العقوبات اذا لامست حرية التعبير في بلدانهم (معاداة السامية) أو إهانة ملوكهم ورؤساء حكوماتهم ، او تقديسهم لقوانينهم ودساتيرهم العلمانية وعدم اعترافهم او احترامهم لقوانين وتشريعات وثقافات البلدان الاخرى . ويوضح الاديب والموسوعي اللبناني بطرس البستاني الالتباس الحاصل في مفهوم الحرية وحدودها ، ويرى ان للحرية ضوابط وحدود لا يجوز الخروج عنها لان ذلك برأيه سيكون نوع من الالتفاف الحرية وتحريف لها ( توهم البعض في معنى الحرية جواز فعل كل ما يخطر في البال وهذا نوع من اساءة استعمال الحرية ). المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي يبرز في سياق بعض كلماته في كتابه (ثقافة الرفض وإصلاح المجتمع) على معاني عديدة للحرية وتطبيقاتها ، ويبين ان الحرية الحقيقية هي التحرر من كل عبودية لغير الله تعالى ، وان العبودية الحقيقية هي في التسليم المطلق لله تعالى ولإحكامه وتشريعاته ونبذ ما يخالف تلك الاحكام والتشريعات ( إن الحرية التامة والانعتاق الحقيقي هي في العبودية التامة والتسليم المطلق لله تبارك وتعالى فكلما أزاد العبد طاعة وتسليماً لله تبارك وتعالى تحرر من الرق لغيره أكثر [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً] (النساء:65) ) .. |