ما يجري في تشيلي يستحق التأمل. فهو يمثل انهيار أسطورة صنعت صنعا وصدقها البعض، ثم ثبت زيفها من خلال الأحداث المتلاحقة حاليا.
ففور رفع الحكومة التشيلية سعر تذكرة المترو بنسبة ضئيلة، انطلقت حركة احتجاجية، بدأت بطلاب الجامعات ثم انضمت لها قطاعات شعبية أخرى. ورغم تراجع الرئيس، سباستيان بنييرا، عن القرار، تحولت المظاهرات لانتفاضة شعبية كاسحة لم تقتصر على التظاهر، وانما شملت الإضرابات العامة، وصاحبها اضطرابات وأعمال شغب. وقد حيرت تلك الحالة الشعبية الكثيرين، الذين اعتبروا أن النسبة الضئيلة لرفع سعر تذاكر المترو لا تناسب حجم رد الفعل في أغنى دول أمريكا اللاتينية، والتي طالما وصفت، ولسنوات طويلة «بالمعجزة» الاقتصادية.
لكن تلك «المعجزة» هي بالضبط الأسطورة التي تم صنعها صنعا. فبعد الإطاحة بالرئيس اليساري سلفادور أليندي عام 1973، صارت تشيلي أول حقل تجارب لنظرية «النيو ليبرالية» التي سادت العالم فيما بعد. وهي نظرية اقتصادية «تزعم أنها تقوم على أسس علمية» على حد تعبير جوزيف ستيجلز، الاقتصادي الحاصل على نوبل. وهي تقوم على الرأسمالية المطلقة، دون أية قيود من أي نوع على حركة السوق الحرة. ففي تشيلي تم انتهاج مسار تلك النظرية بحذافيره على مدى أربعين عاما، فتم رفع كل القيود والآليات الحكومية على حركة السوق، والخصخصة المطلقة التي شملت كافة مناحي الحياة من الشركات والصناعات إلى التعليم والصحة والمياه، فضلا عن تخفيض الإنفاق الحكومي على برامج الضمان الاجتماعي الأخرى. ولم تطل التداعيات السلبية في تشيلى برأسها إلا بعد مرور أكثر من عقد على تنفيذ تلك السياسات، حيث تعرضت تشيلي في الثمانينيات لأزمة اقتصادية طاحنة، فاضطر أوجوستو بينوشيه لإعادة تأميم بعض الشركات التي كان قد تم خصخصتها. ولم ينقذ تشيلي وقتها سوى التأميم الذي قام به أليندى لصناعة النحاس. فهي شكلت أكثر من 85% من عائدات الدولة من الصادرات، فظل للدولة، في خضم الانهيار الاقتصادي، مصدر ثابت ومستقر للدخل فتجاوزت أزمتها. لكن، استمر الإصرار على السياسات نفسها إلى أن انفجرت الأوضاع في الأسابيع الماضية وانهارت معها أسطورة «المعجزة» التشيلية.
صحيح أن تشيلي صارت دولة ثرية، إلا أنها صارت الأسوأ في العالم من حيث الفجوة الهائلة بين نسبة ضئيلة من الأغنياء والأغلبية من الفقراء. وصار ما يقرب من نصف المواطنين تحت خط الفقر. فقد ارتفع معدل البطالة إلى حوالي 45%، يصاحبه حد أدنى للأجور، بالغ التدني، لا يكفي لسد رمق أعداد واسعة من المواطنين. حتى غير العاطلين، فإن الكثيرين منهم يعملون في وظائف غير ثابتة تقذف بهم تحت خط الفقر في غياب المعاش والرعاية الصحية. وأغلب هؤلاء يرتادون المترو لساعتين أو أكثر للوصول لأعمالهم.