استأجر الممثل القنصلي الإسرائيلي شقة لإقامته الشخصية في إحدى بنايات رمل الإسكندرية في أواخر الثمانينيات. عمارة كبيرة يسكن غالبية وحداتها عائلات تنتمي للطبقة المتوسطة والعليا. وتحتل الأدوار الأخيرة المطلة على البحر من بُعد شققٌ لبعض أكثر تجار وصناع المدينة ثراءً وقتها. وبالطبع تُؤمَن شقة الإسرائيلي بحراسة مشددة على مدار اليوم، فيحتل المجندون والضباط أماكنهم أمام باب الشقة، وعند مدخل العقار، وفي الكراج والشارع.
وبرغم بعض السِباب والشائعات حول مالك الشقة الذي قام بتأجيرها للإسرائيلي «كده بدون حَيا»، وكذا بعض التساؤلات المشروعة عن غرابة زرع شخص كهذا وسط كتلة سكنية كتلك، وانتشار نظريات جس النبض ومحاولة التودد الشعبي لمصر وما شابهها مما تنتجه قرائحنا عادة في مثل هذه الظروف، فضلاً عن بعض الهمهمات والتبرمات والتعليقات السياسية التي قد يتداولها البوابون أو السُياس أو السكان خِلسة فيما بينهم، فقد بدا الوضع على ثقله هادئا متعقلا بما يليق بـ»السلام الاستراتيجي» إياه والذي كان قد استقر من أيامها، بل ومع الوقت والعِشرة تعاطف غالبية السكان والعاملون مع أطقم الحراسة من العساكر والضباط المصريين على اعتبار كونهم «مننا»، من نفس فصيلة عبد المأمور المغلوب على أمرهم، فتولوهم بالرعاية والمؤانسة والحكايات والشاي وخلافه. وهي فرصة بالطبع للظفر بأي معلومات أو تفاصيل عن حياة الضيف الإسرائيلي وأسباب تشريفه، ما خلق في العموم جوا من الألفة والدفء غير المتوقع حدا بالموظف الإسرائيلي، الذي بدأ إقامته بالتوجس والتحفظ الواجب، للانفتاح قليلا أسوة بطاقم حراسته المصري، فبادر بالتبسم وإلقاء التحيات، وأحياناً ملاطفة هذا أو ذاك من موظفي العمارة أو من السكان أثناء دخوله وخروجه وسط حراسته. ويبدو أن عربيته المكسرة وسحنته الشرق أوروبية وابتسامته المبالغ فيها واستظرافه المتكلف لم تشفع لثقل ظله ولتاريخ دولته لدى الناس، فلم يحصل على ما أغراه من ودٍ واحتواء، والغالب أن نصائح رسمية وصلته بالعودة لتحفظه ولَمّ نفسه حتى لا يعرضها للأذى، ففعل.
ولم تخلُ المرحلة من طرافة وظرف على أية حال. فلم تسلم المصاعد من وضع بعض ملصقات «فلسطين عربية» أو «القدس لنا» من بعض شباب العمال أو السكان، ليجدوا الرد حاضرا برسم النجمة السداسية بعدها بعدة أيام، فتشتعل جدران المصعد بشطب النجمة بنصل حاد يتلف مكانها، ورسم السيفين والنخلة مثلا! أو الهلال والنجمة! أو كتابة اسم سليمان خاطر الذي كانت ذكراه ما زالت ساخنة، ووضع المزيد من الملصقات مشفوعة بـ»الموت لإسرائيل» وبعض الشتائم المعروفة. وغالب الظن أنهم كانوا جميعاً من المصريين ممن لم يجدوا متنفسا لمشاعرهم المكبوتة سوى بتلك الطريقة، فكانت فرصة لكي يتفكهوا ويتسلوا ويسلوا راكبي المصعد الضجرين قبل اختراع الهواتف النقالة.