أنظر إلى كرة القدم اليوم وأراها صورة مصغّرة للكرة الأرضيّة. الاثنتان تدوران وفق إيقاع واحد. لا أعرف كيف تتكوّن هذه اللعبة وما هي تقنياتها، ولا أتحمّس لها بمقدار ما أتحمّس لبعض الأصدقاء المأخوذين بها إلى حدّ الهَوَس. في التسعينيات من القرن الماضي، تابعتُ بمتعة ما كتبه عنها محمود درويش في مجلة “اليوم السابع”، يوم كان مارادونا لا يزال سيّد الملعب وقبل أن يصبح مهرّجًا ساذجًا وسَمِجًا.
في مباريات كأس العالم لهذا العام، شاهدتُ مع بعض الأصدقاء مباراة الأرجنتين وفرنسا، وشهدتُ هزيمة الفريق الياباني، ولمحتُ مدرّب الفريق الكولومبي، عندما بدأت ضربات الجزاء، كيف يخفي وجهه بيده اليمنى حتى لا يرى الهزيمة، لكنّه كان يتلصّص عليها من بين الأصابع المنفرجة، والذعر يملأ عينيه، كأننا أمام لوحة لجيرانيموس بوش الذي صوّر في أعماله رعب الموت والجحيم. ولقد تجسّد هذا الرعب فعلًا عندما عبَّر بعض مشجّعي المنتخب الكولومبي عن غضبهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهدّدوا بالقتل من اعتبروهم سبب الخسارة.
هكذا رأيتُ أيضًا ملامح اللاعبين والمشجّعين حين كانت الكاميرا تقترب من وجوههم، ولفتني كيف أنّ قطّ الصديق الذي دعانا إلى حضور المباراة في بيته اختبأ خائفًا في إحدى الزوايا حين علا الصراخ مع تسجيل الهدف الأوّل.
الأجساد التي تملأ الملعب وتركض كالأحصنة، تسحر الناظر إليها بقوّتها. لكن هذه الأجساد المدرَّبة والمشغولة بإتقان تضعنا أمام تساؤلات كثيرة لا بدّ من التوقّف عندها ولو قليلًا. فوراء جمال هذه اللعبة والحماسة التي تشعلها في النفوس، هناك منافسات وتصفيات هائلة أوصلت هؤلاء اللاعبين دون غيرهم إلى حيث هم الآن. أحد المدرِّبين شبَّه اللاعبين بسلّة بيض “نرميها على الحائط، فإذا بقيت بيضة واحدة منها سليمة ولم تتكسّر، نصنع منها بطلًا رياضيًّا”.
هناك لاعبون كثر حلموا بأن يتحوّلوا نجومًا في عالم الرياضة، لكنهم اضطرّوا إلى الانسحاب باكرًا من السباق، إما لأنهم لم يتحّملوا التمارين القاسية التي خضعوا لها، وإما لأنهم كانوا ضحية عمليّات الفرز والتصفية للوصول إلى اللاعب المثالي الأفضل. وتقتضي الإشارة، هنا، إلى أنّ اللاعب المرتجى يغامر بحياته لأنه مُطالَب بأن يبلغ الحدود القصوى ويذهب دائمًا أبعد من طاقاته، ومن نتائج ذلك أنه يصبح عرضة للإرهاق والجروح والكسور والشيخوخة المبكّرة، وحتى الموت.
وما يمنح هالة لهؤلاء الرياضيين، بالنسبة إلينا، هو إحساسنا بأنهم يلعبون من أجلنا ويخاطرون بحياتهم عنّا جميعًا. فانتصارهم ليس لهم وحدهم، بل هو أيضًا انتصار لدولهم، ولمؤيّديهم، وللمراهنين عليهم. الرياضيّون المحترفون، الذين خضعوا لأدقّ التدريبات من أجل خوض مباريات عالمية، هم، في نسبة كبيرة منهم، غرباء عن أجسادهم، لا يتحكّمون بمصيرها ولا يعرفون كيف يتلاعب بها القيّمون عليها. إنها، بهذا المعنى، رهينة في يد قوى سياسية واقتصادية ورياضية في آن واحد. آلة مبرمجة هي! حقل تجارب، على المستويين العلمي والنفسي، ممّا يترك آثارًا سلبية على نموّها وعلى وظائفها بصورة عامّة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالأجساد اليافعة. الرهان كبير جدًّا إذًا: الإحساس بالتفوّق والشهرة والمال والمجد... كلّما ارتفعت أسهم اللاعب كلّما ازدادت قيمته المادية. من بين لاعبي كرة القدم الأعلى أجرًا في العالم، بحسب “مرصد كرة القدم”: نايمار، 213 مليون يورو، ميسي، 202 مليون يورو، كين 194 مليون يورو، بوغبا 147 مليون يورو، رونالدو 80 مليون يورو... ولم ننسَ أنّ المبلغ الذي تقاضاه لاعب كرة السلّة مايكل جوردان عن الدعاية التي أنجزها لأحذية شركة “نايك” بلغت قيمتها عشرين مليون دولار في السنة، أي أكثر ممّا يحصل عليه جميع موظّفي الشركة الأندونيسيين، العاملين في صناعة أحذيتها، والبالغ عددهم ثلاثمئة ألف عامل! في هذا السباق المحموم نحو الانتصار والكأس والميداليّات وتحقيق الثروة، كلّ شيء يصبح ممكنًا، والتضحيات يمكن أن تذهب إلى أبعد الحدود. في مقابلة نشرتها صحيفة “ليبيراسيون” منذ ثلاثة عقود، أعلن الطبيب الرياضي الأميركي روبيرت كير عن نتيجة استفتاء أجريَ مع عدد كبير من الرياضيين الأميركيين انطلاقا من السؤال التالي: “هل تقبلون بتناول منشّطات تجعلكم في عداد الأبطال هذه السنة، لكنّها قد تسبّب لكم الموت في السنة اللاحقة”. وتراوحت نسبة الذي أجابوا بالإيجاب بين خمسين وثمانين بالمئة.
نعم، الربح أهمّ من جسد اللاعب ومن حياته! وأهلًا بالنصر، الآن، حتى ولو كان ثمنه الموت في اليوم التالي، أو كما قال امرؤ القيس: “اليوم خمر وغداً أمر”.
كالمصارعين في حلبات روما القديمة، يمرّ أمامنا اللاعبون، الواحد تلوَ الآخر، فنربط مصيرنا، ليوم واحد أو لليال عدّة، بقدرتهم على تسديد الضربة الملائمة. فإذا انتصروا أحسسنا بالنصر، صفّقنا وهلّلنا، وإذا انهزموا انهزمنا. ومنّا مَن، لانفعاله وشدّة حماسته، يشهر سكّينًا أو مسدّسًا، في البلاد التي لا يهدأ فيها الرصاص، بصفته التعبير البدائيّ عن الفرح والحزن...