جلال حسن
إذا كانَ القياس في الحياة هو القيمة الإنسانية في مقدار الطيبة والعذوبة، فأن الشاعر القروي عيسى حسن الياسري علامة اليقين في جدول الحب، وانحناءة التواضع بالرفعة، وعدالة الاستقامة بالمسطرة. إما إذا كان القياس هو الإبداع، فإن الهور والقصب والعشب ينحني أجلالاً لشاعر الريف بكل التجلي، لأنه العلامة المتميزة في شتلات الورد. وإذا كان القياس بالمواقف الحياتية، أعتقد أن قلمي يشف من مواقفه الشريفة التي يلزم أن تدرس في معنى أن يكون الشاعر أنساناً أولاً، ومبدعاً ثانياً. لشاعرنا الجميل وهو الأكثر توهجاً وتعباً، وهو النادر في خرائط الحب والشعر والمدن، والمجتهد بحب الوطن أقول: سلاما في مهجرك، وأنت الشاعر “الكميت” في مخلوقاتك التي تحمل قوة البصر، وقوة الحكمة. إن من يقرأ ديوان “سماء جنوبية” يدرك أن السماء أكثر زرقة في عينيّ قائلها، وإن الحياة ممكنة رغم صعوبتها، والديوان بغلافه الأزرق له حكايات في سماء الجنوب التي عاشها الشاعر في أكواخ القصب بين هموم الفلاحين وأفراحهم، لذلك رسم طفولة متوهجة تأتي من تلك الحقول والمراعي تبدأ من انبلاج الفجر حتى الغسق. يصف الشاعر حياة الفلاحين رغم مرارتها، ويحتفل بهطول الأمطار وحراثة الأرض وفيضان النهر واخضرار الزرع وخرير أمواج نهر “ أبو ابشوت” حيث السماء زرقاء يفرشها العشب ومزامير الرعاة. وتتوالى النفحات الشعرية المموسقة في ديوانه الأول “ العبور الى مدن الفرح” ودواوين “ فصول في رحلة طائر الجنوب” و “ المرأة مملكتي” و “شتاء المراعي” و “ صمت الأكواخ” وصولا الى أخر ديوان “ أناديك من مكان بعيد” ورواية بعنوان “ أيام قرية المحسنة” ومختارات شعرية بعنوان “ العشبة” مترجمة الى اللغة الانكليزية أغترب عيسى الياسري عن العراق في خريف عام 1998 بعد معاناة قاسية حيث عمل “ كاتب عرائض” أمام محكمة بداءة الاعظمية متحملا قساوة تلك الأيام في حصار أليم، وتحمل الحر والبرد من أجل لقمة عيش كريمة تقاوم انحناء كلماته في مدح الحاكمين، ولو فعل ذلك لعاش مرفهاً لكنه أبى ذلك أمام حريته وموقفه من الحياة واختار قساوة المنافي والغربة في البلاد البعيدة. جاء الياسري الى العراق عام 2004 وكان أول المحتفلين به هو الوسط الثقافي الشعبي بعيدا عن الواجهة الرسمية وأتذكر أول أمسية أقيمت تكريما له، كانت بمبادرة تجمع “ فقراء بلا حدود” في ملتقى “بيض الوجوه” وقرأتْ فيها شهادات بحق الياسري للكتاب “ ناظم السعود” و”على دنيف حسن” و “ رياض الفهد”. كما بادر المركز الثقافي العربي السويسري غاليري بغداد باقامة أمسية شعرية وقع خلالها عددا من من الكتاب والأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين على وثيقة تطالب أن يكون الشاعر الكبير عيسى حسن الياسري وزيرا للثقافة العراقية. الياسري المحتفى به ظل صامتا وفي عينيه دمعتين، ثم قال: أعذروني ثم اعذروني انهما قطرتان من ندى شط الكحلاء، وأمواج المشرح، تنطقان بالحب من حقول العشب. |