عندما يتورط مواطنو دولة ما بأعمال عدائية ضد دولة أخرى بدون ان يكون هناك دعم مباشر أو غير مباشر لهؤلاء المواطنين من حكومتهم، فهل يعد انتهاك قاعدة الحصانة السيادية للدول التي اقرها القانون الدولي أمرا صحيحا لمحاسبة الدولة عن أفعال مواطنيها السيئة؟ وهل خرق هذه القاعدة يؤسس لعلاقات دولية مستقرة، لاسيما عندما تنفرد دولة ما مستندة الى موارد قوتها الشاملة وقانونها الخاص بأخذ زمام المبادرة لمحاسبة الدول الأخرى عن اعمال مواطنيها؟ وهل يقود فعل هذه الدولة الى تفعيل قاعدة المعاملة بالمثل المعروفة في العلاقات الدولية؟ وإذا ما حصل ذلك فما هي النتيجة؟
ان الدافع لطرح هذه الاسئلة وغيرها في كثير من دوائر صنع القرار، والمراكز البحثية الاستراتيجية على مستوى العالم في الوقت الحاضر هو ذلك القانون المثير للجدل الذي اقره الكونغرس الامريكي مؤخرا والذي حمل اسم «قانون جاستا» أو « العدالة ضد رعاة الارهاب» والذي يهدف الى محاسبة المملكة العربية السعودية عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية؛ لكون معظم الارهابيين الذين شاركوا في هذه الهجمات يحملون الجنسية السعودية – بالتحديد 15 من مجموع 19- وقد كتب وقيل الكثير عن هذا الموضوع، ومن بين المقالات ذات الصلة مقال للكاتب الأمريكي البارز (مات ماير) الزميل الزائر في (معهد امريكان انتربرايز) والذي نشره المعهد المذكور اواخر شهر ايلول- سبتمبر الماضي وحمل عنوان( جاستا هي خطوة صحيحة لأثبات مسؤولية المملكة العربية السعودية)، اذ يرى السيد ماير في مقاله أنه»لأول مرة في تاريخه يتجاهل الكونغرس فيتو الرئيس باراك اوباما قانون « العدالة ضد رعاة الارهاب» «JASTA «، وقد اشار زملائي دانييل بليتكا والسفير جون بولتون الى ان هذا القانون قد يهدد الأمريكيين من خلال وضع استثناء لمفهوم الحصانة السيادية التي لا تحقق النتيجة التي يطمح اليها الأنصار. يعد جاستا خطوة صحيحة لاثبات مسؤولية السعودية وتورطها بالعمليات الارهابية خلال العقود الثلاثة الماضية، ومهما اختلفت اراء الاشخاص بشأن دورها في الهجوم الارهابي على الولايات المتحدة في ١١ سبتمبر ٢٠٠١، مما لا شك فيه ان المملكة العربية السعودية تمول المساجد السلفية في جميع انحاء العالم فضلاً على المساجد التي تأوي الأئمة الذين ينشرون النسخة المتطرفة من الاسلام. لذا يجب ان تتحمل مسؤولية تمويلها للمساجد والأئمة المتطرفين الذين يدّعون العداء للغرب وعقيدة الجهاد الهجومي. وقد كشفت الاجهزة الامنية في اوروبا مؤخرا عن تورط خمسة دول في قضايا ارهابية، وعن العلاقة التي تربط المساجد ببؤر النشاط الارهابي العربي الذي تموله السعودية فعلى سبيل المثال في حي « مولينبيك» البلجيكي سيء الصيت الذي يعد مرتع النشاط المتطرف للمتشددين، يوجد أكبر المساجد العربية الكبرى التي تمولها السعودية وينشر فيه الفكر السلفي المتشدد منذ اوائل عام ١٩٧٠. وعلى الرغم من رفض ادارة اوباما وغيرها التقرير الصادر مؤخراً بشأن تورط السعودية في احداث ١١/ سبتمبر، تظهر بعض الوثائق تفاعل ومساعدة المسؤولين السعوديين مع منفذي الهجوم فضلا على توفير التمويل لهم».ويضيف السيد ماير بالقول: « لكن ما يطرح الكثير من علامات الاستفهام او يثير الشك هو أن أولئك المسؤولون على علم بما حدث لاحقا في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، إلا أن حقيقة وجود اتصالات تزيد الأمر تعقيدا وتقدم دليلا حيثيا على احتمالية وجود معلومات بما حدث، اذ ليس من قبيل الصدفة ان يذكر مسجد الملك فهد وغيره من المساجد في لوس انجلوس في تقرير الكونغرس المتكون من ٢٩صفحة، فعلاقات التمويل والعلاقات المباشرة بالمسؤولين السعوديين والمشار اليها في التقرير هي مسائل مثيرة للقلق، ربما لا يمكننا ان نعرف اكثر من ذلك بسبب شكوى عدد من وكلاء مكتب التحقيقات الاتحادي وضباط وكالة المخابرات المركزية للجنة التحقيق المشتركة من عدم التعاون السعودي بشأن التحقيقات المتعلقة بالارهاب قبل وبعد هجمات ١١ ايلول/ سبتمبر، وافاد احد قدامى المحاربين ووكيل مكتب التحقيقات الفيدرالي بعدم تعاون السعودية وعرقلتها للأمور منذ سنوات اذ تعمل فقط بما يخدم مصلحتها الشخصية، وبالتالي يمكن ان يخلق «جاستا» نوع من التعاون في التحقيقات المتعلقة بالارهاب الامر الذي يصب في المصلحة الذاتية للبلدان. بصعود « داعش» ونسخته من الوهابية مذهب اهل السنة والجماعة فإن البذور التي زُرعت قبل عشرات السنين اصبحت ازهاراً الآن، اذ تواجه اوروبا و الولايات المتحدة الآن سنوات من الهجمات الموجهة ومستوحاة من المقاتلين الأجانب العائدين والمقاتلين المحبطين الذين لم يتمكنوا من الذهاب الى سوريا والعراق...كيف يمكن ان تصلح أمريكا جهاز الأمن الوطني المحلي للاستعداد او التعامل مع هذه الموجة الأخيرة من الإرهاب، سيضل مستقبل الولايات المتحدة مهدد بالارهاب ليس فقط لحين توقف السعودية والدول الأخرى عن دعم هذه المجموعات، بل لحين تدميرها وقادتها واصلاح المجتمعات».
وينتهي السيد ماير من مقاله بقوله:» تفرض السعودية قيودا متزمتة ونسخة صارمة من الاسلام داخل حدودها، والنساء فيها مواطنات من الدرجة الثانية ويفتقرن الى الحقوق الفردية، لكن الامر مختلف اذا ماحاولت نشر هذا المبدأ الى جميع انحاء العالم من دون اي مخاوف من تأثيره بشكل مباشر على الاتباع، فمن باكستان الى بلجيكا و لوس انجلوس، ينتشر الكثير من الارهابيين من المساجد والمدارس الدينية السلفية التي تمولها السعودية، ومثلما يجب على امريكا التكفير عن الذنب الذي اقترفته في سوريا والعراق، على الحكومة السعودية التعويض عن الفوضى التي تسببت بها بطريقة مباشرة او غير مباشرة على مر السنين، وربما لا يكون « جاستا» رد صحيح لكنه خطوة في الاتجاه الصحيح».
نظرة تحليلية
يتضح من خلال القراءة التحليلية للنبرة التي كتب بها مات ماير مقاله اعلاه، أن الغضب من السعودية في واشنطن لا يقتصر على النواب والشيوخ الامريكيين، بل يتعداه ليشمل الباحثين والمحللين الاستراتيجيين في مراكز الابحاث، وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على وجود تيار معادي شديد للمملكة لدى الرأي العام الامريكي، لم تستطع كل أواصر الصداقة والتعاون بين البلدين تخفيف وطأته، وهو يشي بأوقات صعبة ستمر بها العلاقة بين الطرفين في المستقبل الى درجة تصل الى تقاطع شديد في المصالح، وهذه الحقيقة بحاجة الى أن يأخذها صانع القرار السعودي بالحسبان ليستعد الى ما هو قادم.
كذلك يتضح من المقال ان السعودية تحصد ثمار سياستها الخارجية في العقود السابقة، تلك السياسة التي تأثرت بالتحالف السياسي- الديني ( ال سعود وآل الشيخ) الذي تأسست عليه المملكة السعودية الحالية، وربما كان من الافضل للمملكة ان تبقي تأثيرات هذا التحالف حبيسة حدودها الجغرافية، فعبورها الى خارج أسوار المملكة كان خطأ استراتيجي قاتل، والمملكة تتحمل اليوم نتائج هذا الخطأ، فهي ليست متهمة بتمويل ودعم الجماعة التي قامت بهجمات 11 سبتمبر، بل متهمة بتمويل ودعم ورعاية التطرف السلفي الارهابي العالمي، وهذا يسيء كثيرا لسمعتها وسيحملها المسؤولية عن اعمال ليست لها علاقة بها من قريب او بعيد، فالمعروف ان الارهاب تتم محاكاته من قبل الجماعات الناقمة والغاضبة على امتداد العالم، وارهاب القاعدة وافراخها ستتم قطعا محاكاته من جماعات أخرى لا تنتمي ربما للفكر السلفي اطلاقا، لكن مع ذلك ستكون المملكة هي المتهمة التي عليها تحمل المسؤولية. ربما ان الوقت لم يفت تماما لصانع القرار السعودي لإعادة النظر بهكذا سياسة خارجية حفاظا على وحدة المملكة وسمعتها الدولية، فالتحرك لتلافي العواقب السيئة أفضل من انتظار حصولها.من جانب آخر، فان التحامل والغضب من السعودية لا يبرر العمل الامريكي المنفرد الهادف الى خرق قواعد القانون الدولي المعمول بها، وكان الاجدر بواشنطن بدلا من هذا الاستهتار الفاضح بالعلاقات الدولية ان تستند الى الاجماع الدولي لإيجاد صيغة تتوافق مع القانون الدولي ترتكز عليها للوصول الى نتائج أفضل. فعندما تخرق واشنطن قاعدة الحصانة السيادية للدول بدون الاعتماد على ادلة دامغة تثبت تورط حكومة دولة ما بأعمال عدائية ضدها، فإنها تفتح الباب على مصراعيه للفوضى الدولية، فكل الدول ستطبق قاعدة المثل اتجاه بعضها البعض، في وقت يبدو ان الوضع الدولي يمر بظروف حرجة قد تطيح بكل نظامه وتقوده نحو ما لا تحمد عقباه. ان القانون الدولي زاخر بالقواعد التي يمكن بها محاسبة أي دولة معتدية، الا ان واشنطن كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين « تعيش جنون العظمة» وهذا الجنون ستكون عواقبه وخيمة على الجميع.