أدت اليابان دوراً مهماً في تطور الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. والبلاد اليوم هي ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعدما دفعت هزيمتها واستسلامها في نهاية الحرب عام 1945، إلى تحولات هيكلية في الاقتصاد، إذ قررت وقف التصنيع الحربي والتركيز على التنمية المدنية. وأبدع اليابانيون في استيعاب التكنولوجيا التي كانت تتركز في الولايات المتحدة وعدد من البلدان الأوروبية، ووُظِّفت الآليات الصناعية وأدواتها الحديثة في صناعات متنوعة مثل صناعة السيارات أو الإلكترونيات والأجهزة المنزلية المعمرة.
وعندما حل عقد الستينات من القرن الماضي، تمكنت اليابان من تحقيق نمو اقتصادي يعادل 10 في المئة سنوياً. وعلى رغم تراجع معدل النمو السنوي إلى خمسة في المئة في السبعينات، ثم إلى أربعة في المئة في الثمانينات، بقيت البلاد ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. ولم تفقد اليابان المرتبة الثانية وتنتقل إلى المرتبة الثالثة إلا عام 2010 عندما تجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الياباني حجماً.
وفي 1990، بدأت المشاكل الهيكلية للاقتصاد الياباني، بعدما مرت البلاد بطفرة اقتصادية وتوسعات في التمويل ثم ارتفاع في قيم الأصول الحقيقية والمالية خلال النصف الثاني من الثمانينات. وبلغ متوسط دخل الفرد في اليابان الأعلى بين الدول الصناعية المتقدمة عام 1990. وشهد أيضاً ذلك العام، ارتفاع مؤشر «نيكاي» الذي اقترب لفترات من 39 ألف نقطة، مقارنة بـ16 ألفاً ونيف اليوم، كما ارتفعت أسعار الأصول العقارية في طوكيو والمدن الأخرى.
يذكر اقتصاديون أن هذا التضخم في الأصول نتج من التوسع في التمويل الميسر. وتدارك «بنك اليابان» (المركزي) الأمر متأخراً، فعمل لرفع تدريجي لسعر الحسم من 2.5 في المئة عام 1987 إلى ستة في المئة عام 1990. لذلك، بدأت رحلة الهبوط في الأسواق المالية بالترافق مع ارتفاع المديونيات وانكشاف النظام المصرفي على حجم كبير من الديون غير المخدومة. وبذلت الحكومات اليابانية المتعاقبة منذ العام 1990، جهوداً محمومة لتنشيط الأوضاع الاقتصادية اعتماداً على السياسات النقدية التي يصوغها «بنك اليابان» أو من خلال سياسات وزارة المال. لذلك، عمدت الحكومة إلى التوسع في الاقتراض لمواجهة متطلبات الإنفاق الجاري والرأسمالي، ما رفع مستوى الديون السيادية إلى أكثر من 11 تريليون دولار اليوم أو 230 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
كيف يمكن اقتصاداً عصرياً أن يمر بهذه المحنة ويظل عصياً على الإنعاش لأمد طويل، فاق ربع قرن؟ يستغرب العديد من الباحثين أوضاع الاقتصاد الياباني الذي تمتع بازدهار لافت على أمد أربعة عقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خصوصاً بعدما لم تفلح السياسات المالية والنقدية في تعديل المسار منذ مطلع التسعينات. من أهم مشاكل الاقتصاد الياباني الأوضاع الديموغرافية، فالشعب الياباني أصبح يضم نسبة كبيرة من كبار السن، وبات معدل النمو الطبيعي للسكان متدنياً، ولا تمثل هجرة الأجانب إلى اليابان أي تأثير يُذكر في التركيبة السكانية.
يبلغ عدد سكان اليابان اليوم 126 مليون شخص، أو 1.7 في المئة من إجمالي سكان العالم. ويساوي العمر الوسيط في اليابان 47 سنة، أي أن 50 في المئة من السكان هم في أعمار أعلى من هذا العمر، و50 في المئة هم دونه. ويعد هذا العمر الوسيط مرتفعاً قياساً إلى بلدان صناعية متقدمة أخرى. أما الخصوبة في اليابان فلا تزيد عن 1.4 طفل لكل امرأة في سن الإنجاب.
وفيما ظلت اليابان تعتمد على التصدير لتعزيز الصناعات والنشاطات الاقتصادية، لم يتعزز الاستهلاك المحلي في شكل مفيد. هذه المعضلة دفعت الحكومة إلى تأجيل رفع ضريبة المبيعات، التي هدفت إلى تأمين أموال لمواجهة استحقاقات الديون السيادية. وتبنت الحكومة برنامجاً للتيسير الكمي (الإنعاش النقدي) يشتري عبره «بنك اليابان» أصولاً مالية لتأمين السيولة للمؤسسات والأفراد. ولم تفلح هذه السياسات والإجراءات في حفز الاستهلاك المحلي، وظل معدل التضخم أقل بكثير من المستوى الذي يسعى إليه «بنك اليابان»، وهو اثنين في المئة. هل يمكن أن تعجز السلطات الاقتصادية في اليابان عن حفز هذا الاقتصاد الكبير الذي كان نموذجاً يُحتذى به على مدى عقود طويلة؟ ماذا يمكن الدول الرئيسة التي تعد من أهم شركاء اليابان، أن تفعل لتحرير اليابان من أزمتها الاقتصادية؟ ربما نجد إجابات لدى وضع قرارات قمة العشرين الأخيرة موضع التنفيذ، خصوصاً التمسك بتنشيط التجارة كمحرك للنمو وبناء اقتصاد عالمي منفتح ومكافحة الحمائية التجارية.