قراءة / أحمد البياتي
( وافدة الفجر ) نصوص شعرية للشاعر جابر السوداني صدرت عن دار الروسم للطباعة بغداد – شارع المتنبي احتوت على ( 88 ) نص شعري وتضمنت مقدمتان الأولى للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي وكانت تحت عنوان ( هذا الديوان .. إضافات وتجاوز ) والثانية للناقد والشاعر علوان السلمان وكانت تحت عنوان ( التقابل بين الأنا والأنا الآخر في قصيدة عزرائيل يحاورني ) . في هذه المجموعة ادخلنا الشاعر في غمرة احساس جارف بحيوية موضوعاته التي تناولها في قصائده بتفصيلاتها المتغيرة ، وكانت نصوصه ردة فعل لواقع أو حدث عِبْرَ دلالة شاملة والتي جعلها بتماس مباشر مع محنة الإنسان من حيث التداخل لرؤية الجوهري والشامل من خلال التأجيج المحسوس ، لذا فأن ذاته الشاعرة استطاعت ان تضفي تشكلات جمالية وتمظهرات عدة عِبْرَ الصور والأخيلة التي جسدت الفعل الإبداعي للجملة الشعرية في بناء تعبيري متقن وتصور خاص لمفهوم الشعر ووظيفته . ففي نفسه حاجة ملحة للبوح ونشر الحقائق التي خزنها داخل نفسه الإنسانية فتمكن من توضيح اشارة دلالة المقاطع المرتبطة فيما بينها ، وهذا ماجعل لمحاته الشعرية توّلد جمل شاعرية مصاغة بدقة متناهية ، كان واضحاً في إيصال بنائه الشعري بإحكام متدرج نحو النمو مستنداً الى الوجدانية الشاعرية معبراً عن تجربته العميقة للحياة بما فيها من الخليط المتجانس للأحداث. في نص ( نزوح ) ص 93 يقول : حين ارتأينا الهروبَ للمنافي أيقنَّا جميعاً إن هذِهِ الأرضَ لم تعدْ موطناً لنا فأطعمنا البحارِ العميقة لحومَ أطفالنا الصغار وظلتْ بقايا رثةٌ من ثيابِ النسوةِ الهارباتِ معلقةً تمزقها الريحُ على أسلاكِ حواجزِ الحدود الشاعر لايمكنه قطعاً فهم ماضيه كما ينبغي إلا في ضوء ماينتجه الحاضر وما يبدعه في لحظاته الراهنة ، ففهم الشاعر لماضيه لايتم على وجهه السليم إلا إذا كان مستضيئاً بمطالب الحاضر ونداءآته ، لأن الشعر يمثل اداة للتعبير عن الإنسان في صلته بواقعه زمناً ومكاناً بطريقة بالغة التأثير ، والشاعر يستعين بمختلف وسائل التعبير من اجل توصيل رسالته الى المتلقي ، إذ شكلت اللغة عند الشاعر محفوظ في كتاباته الشعرية ركناً أساسياً ومهماً على اعتبار أنها موطن الهزّة الشعرية وانعاش وتجسيد للفاعلية الشعرية واختزال لكيانها المادي ، لذلك جعلنا الشاعر في مجموعته هذه نتحسس الدلالات الساطعة من حيث البناء في هيكل القصائد الممتلئة بالحرارة والشاعرية ، ففي لغته التجلي والإفصاح عن شخصيته التعبيرية البالغة الكثافة ، حارة ومتحركة تجسد رؤيته وذهوله وحلمه . في نص ( مطاولةٌ في الكون) ص 104يقول: أتعبتني أيها الصبحُ البعيدْ ولازالَ خطوي يشدُّ الرحالَ مسافراً لشمسِكَ النائيةِ في العلا يقتفيكَ نجمةً فضيةَ البريقْ صاعدةً إلى ملكوتِ عرشِكَ في المآبِ البعيدْ ورغمَ احتراقي على يديكَ وتكسرَ أجنحتي في ظلمةِ الغيهبِ المسحورْ لازالَ بيني وبينَكَ مجرتينِ من الهاثِ المميتْ يؤكد لنا الشاعر أنه يعيش حالة من التجلي في مناخ الإبداع وهو ماضٍ في عوالمه كونه متيقن ان الشعر فن يحتاج الى الوقائع واللغة والخيال والتأمل لتفسير الحياة بمختلف ارهاصاتها وتداخلاتها بغية الوصول بثقة واقتدار الى لحظة التوهج الشعري ، ولذلك استطاع ان ينقلنا بلغته الرصينة والثرّة الى عالم آخر مختلف فيه كل الأشياء مختلفة بتوليده للتساؤلات المستمرة ، وخلق علاقة وارتباط بين الموقف والموضوع الذي يطرحه بقيمة فنية وجمالية كونه يعتقد أنها سبيله الوحيد للإتصال بالحقيقة الشعرية التي ينشدها . في نص ( بكائية السواد ) ص 55 يقول : من حرائقِ السوادِ المستعمرةِ كالجحيمْ ومن اسوارِ بابلَ القديمةِ وأديمها المستباحِ بالسيفِ والخطى الغاشمةُ من ممالكِ الجنوبِ التي شاكست مشيئةَ الطارئينَ قروناً ولم ترعـوِي تجيءُ شجيَّةً وفودُ قصائدِي كهيئةِ العرائسِ الثكالى أو كحزنِ الزهورِ التي أوجعتها أناملُ القطفِ المريعِ الصور والإستعارات في نصوصه الشعرية لها وقع خاص في شعره من حيث التكثيف والإيماء، فيها الصدق والوضوح ، محاولاً قدر المستطاع الإبتعاد عن العبارات الفضفاضة من حيث التعبير والإسلوب ، نصوصه حافلة بالأسئلة المتشابكة الناتجة عن دوافع نفسية عديدة شحنها باسئلة ومخاطبات ، وهذا ماجعل صوره الشعرية متعددة في الرؤية والإستحضار . كما جعلنا الشاعر نتلمس طعم التجريد والوهم والحقيقة والخيال حين تحرر من سلطة الواقع المرير وصولاً الى الفعل النفسي في عالم الروح ، محاولاً أن يرتشف من نفحات السرور والسعادة كونه يعتبرها واحته الخضراء التي تفيض شوقاً وحنيناً . استمر في بناء القصائد بالمهارات التي امتلكها عندما وظّف أدواته الشعرية بطريقة مؤثرة ومعبرّة لتصوير الأحداث المتدفقة بصفاء رؤيته الشعرية الثاقبة ولونه الشاعري الجميل . في نص ( الضليل ) ص 186 يقول : عمرٌ تعتَّقَ المرُّ فيهِ طويلاً حتى استحالَ خمراً نيئ المذاقِ تحتسيهِ ............... جزاءً وفاقاً بما كسبتْ يداكَ وكل امرئٍ بما كسبتْ يداهُ رهينةْ الستَ أنتَ من أقحمَ الغوايةَ عنوةً بروح القصائدِ وامتطيتها جناحاً عالياً يحلّقُ بروحكَ ذاتَ سكرةٍ أبديةٍ للخلودْ الستَ أنتَ من أفتى قديماً بذبحِ النصوصِ على سبيلِ النكايةِ بالشعراء وأعلنتَ للجمعِ الغفيرِ بلاغتكَ الماكرةْ . الشعر يرسم عالماً جديداً يختلف عن العالم الواقعي كونه يشكل رؤية جديدة مغايرة ، لأنه فن ينبني على تجربة شعورية انفعالية ، لذا حرص الشاعر محفوظ على ان تكون نصوص هذه المجموعة هي نافذته التي يطل منها بشعره على مرافئ الوجدان مغترفاً من معين الروح الدافقة ليستزيد بزاد العاطفة والوجع متغنياً بأحلامه والآمه ليعبّر عن موقف عام للإنسان في حياته اليومية وكانت كل صوره الشعرية منقولة عن حس رؤيوي تأليفاً وتسوية ، كونه أيقن مسبقاً لما يذهب إليه في نداءآته الشعرية ، رسم واقعاً جديداً صار خلفية لمزاج جديد يعيشه الشاعر وينثر قلقه على كل شيء من خلال مونولوج بارع تتكرر فيه المناجاة . في نص (الهلالية ) ص 66 يقول : منسيٌّ هنا أنوءُ بثقلِ حيرتي المستبدِ من سنينْ وتفوحُ من بينَ أصابعي روائحُ الانتظارِ المملْ يائسٌ أنا أمدُّ إليكِ خلسةً يدي لعلها تطالُ نعيمَكِ المتمنعَ عني وراءَ حجابِ الغبشِ الكثيفْ لمنْ سأكتبُ بعدَ وجهكِ بوحَ قصائدي وأنتِ في دوامةِ يومكِ لاهيةً لاتقرئينْ لايمكن أن ننظر الى عملية الإبداع منفصلة عن الشاعر بمعنى أن القصيدة منغلقة على ذاتها ، وكأنها بلا صانع حقيقي ، إذ الشعر لايغدو مخلوقاً بصفات محددة تكسبه ملامحه الخاصة إلا من بعد أن يدخل فيه الفعل والحدث تأثيراً ، لأن الرؤية الراسخة تلقي بظلالها العميقة على مهارات الشاعر الكتابية وتنعكس على أشكاله التعبيرية وتطبع لغته الشعرية بطابعها . |