كان شتاء بغداديا باردا.. أفقتُ على غير عادتي في الصباح الباكر وقبل الجميع.. ومع أنني كنت أتمتع بإجازة.. بيد أن هاجساً ملحاً حدثني أن أمرّ اليوم على مقر عملي لأجلب بعض الأوراق المهمة التي تخصني.. اُعدّ الفطور واُفيق زوجي والطفلين.. ونمضي جميعا إلى غاياتنا..
حارس الحضانة يتفاجأ بدوام طفلي المبكر جداً دون باقي الأيام.. وتستمتع طفلتي باللعب لبعض الوقت مع زميلاتها في المدرسة قبل أن يرن جرس الصباح.. بينما يلتحق زوجي بعمله.. تضاحكني زميلتي في العمل ونحن نشرب قهوتنا الصباحية.. وتشبّهني بالشرطي الذي يقضي يوم إجازته في مركز الشرطة!.. وما أن يمر بعض الوقت وقبل أن أهم بمغادرة مبنى الدائرة حتى يرن هاتفي..
تصرخ أختي ما أن تسمع صوتي وتفوه بكلمات أكاد ألا أفهمها من شدة الانفعال “أينكِ؟.. هل أنت بخير؟”.. أردّ بسرعة وبذهول “أنا في عملي ماذا حدث؟”....”أيّ عمل؟.. ألستِ في إجازة؟.. حسبناك مُتِّ وأنت في فراشك!.. أين الأطفال؟”....”في مدارسهم ماذا حدث بحق السماء؟”....”تعالي إلى البيت.. لقد دمّر الانفجار كل شيء!”.. فأصرخ “أي انفجار؟.. هل أنتم بخير؟”.. “بخير.. كلنا بخير والحمد لله.. فقط عودي إلى البيت”..
اُهاتف زوجي واستقل أول سيارة أجرة إلى هناك.. أقف أمام البيت وقد خشـّبَتْ الصدمة جسدي وانهدل فكي الأسفل وراحت الدموع تنهال بلا توقف من عينيّ الجاحظتين.. كان المنظر الخارجي لبيتنا قد استحال إلى هيكل لم يتعدَّ بضعة من حيطان تتوسط أنقاضاً.. بينما تناثرت كل أجزائه الأخرى شظايا.. لم يبقَ في البيت من شباك أو باب أو ستارة أو ستر.. رأيت بشرا لم أرهم من قبل بينهم من يكبـّر ويحوقل وبينهم من يسب ويشتم ويكفر.. كانوا يتجمهرون عند الباب الخارجي المفتوح على مصراعيه بسبب العصف.. وقد كست الأرض والجدران آثار دخان وسواد.. كنت أشق طريقي بينهم وأنا شبه غائبة عن الوعي.. بينما أهجس هسيس الزجاج المهشـّم والحصى تحت قدميّ يربك خطواتي.. لا أكاد أرمش وأنا أمعن النظر إلى البيت.. “هل هذا ما تبقـّى من بيتنا الدافئ الذي بنيناه أنا وحبيبي لبنة لبنة؟”.. أدخل في المشهد الذي بدا أكبر من حجم استيعابي بدهر.. أحس أنني في كابوس حتى بدا كل شيء حولي بالأسود والأبيض بينما وحدي التي كنت بألواني الطبيعية!..
تتملكني الرهبة وأنا أدخل الهيكل وأتلو كل ما أحفظ من السور القصار.. الأنقاض في كل مكان.. أهرع لأصعد إلى غرف نومنا وكأنني أطمئن أننا جميعا لم نكن هناك لحظة الانفجار.. أجد الأسِرَّة وقد تحولت إلى مرمى خناجر من زجاج وأنقاض وشظايا.. يا إلهي!.. ما الذي جعل مني شرطيا يقضي إجازته في المركز في هذا اليوم بالذات؟.. ما الذي أبعدني واُسرتي عن بيتنا في هذا الصباح العجيب؟.. أتساءل وأنا أتلفت حولي.. “ماذا حدث؟”.. وتأتيني الإجابة “سيارة مفخخة قريبة أودت بحياة العشرات.. لقد نجوتم بأعجوبة.. فداؤك البيت بكل ما فيه.. والحمد لله على سلامتك وسلامة أهل بيتك”..
كلما تذكرت هذه الحادثة التي تبدو بسيطة جدا إزاء كل كوارثنا.. تملكني إحساس لا أستطيع الفرار منه وتطنّ ببالي عبارة واحدة: لقد دمروا البيتالوطن إذ نحن نحمد الله في كل صباح أننا مازلنا بخير..!