الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي على العراق مقابل حصول العراق على القرض المالي المقدر بنحو 15 مليار دولار على ثلاث دفعات تمتد إلى ثلاث سنوات تمثل مصادرة صريحة للقرار الوطني والمساس بسيادة العراق الوطنية . فبموجب شروط القرض يخضع العراق إلى الرقابة المالية التامة لصندوق النقد الدولي , ولا يحق للحكومة العراقية التصرف في أموالها سواء للإنفاق على الخدمات او لإقامة مشروعات او لتوظيف موظفين او تشغيل عاملين الا بموافقة لجان صندوق النقد المشرفة على عمل الحكومة العراقية . وهي شروط جائرة ومهينة يجب رفضها ومقاومتها , فمثل هذه الشروط لا تفرض الا على البلدان التي تعرف بالبلدان الأكثر فقرا والأقل نموا في العالم , ومن المعيب ان تفرض مثل هذه الشروط على بلد كالعراق الذي يعتبر من البلدان الغنية في العالم الثالث .
ان استسهال الحكومة العراقية الاقتراض الخارجي يعكس مدى تخبطها وجهلها وسوء ادارتها الاقتصادية وعدم اكتراثها بالعواقب الكارثية التي تخلفها القروض الأجنبية , وهو توجه خاطئ وغير مبرر , واذا كان لابد من الاستدانة الخارجية فيجب ان تكون الاستدانة الخيار الأخير بعد ان تستنفذ كافة الخيارات المتاحة.
وبإمكان الحكومة العراقية ان تتجنب الوقوع في كماشة صندوق النقد الدولي لو التجأت الى الخيارات الأضمن والأكثر نفعا بدلا من اللجوء إلى استجداء القروض الخارجية بشروط صعبة تؤدي في نهاية المطاف إلى تكبيل الاقتصاد العراقي بمديونية ضخمه وتعمق تبعية العراق الاقتصادية والمالية إلى البلدان الاحتكارية وتضع العراق تحت طائلة ابتزاز الدائنين الدوليين.
الخيارات البديلة عن القروض الخارجية :
1- الاقتراض الداخلي: سواء من البنك المركزي او من الشركات المالية للقطاع الخاص . فالمعلن ان رصيد البنك المركزي العراقي أكثر من 54 مليار دولار في عام 2016 وان الغطاء المطلوب دوليا للعملة الوطنية 40 مليار دولار وبذلك يمكن للبنك المركزي العراقي تغطية احتياجات العراق المالية بدلا من الاقتراض الخارجي.
2- تستطيع الدولة العراقية بيع كميات من النفط الخام بطريقة الآجل لبعض الدول الأجنبية بأسعار اقل بقليل من أسعار سوق النفط الدولية ومهما يكون السعر التفضيلي الذي يبيع العراق به نفطه فسيكون أفضل بكثير من أسعار الفوائد التي يدفعها العراق للقروض الأجنبية وما تحمله هذه القروض من تبعات تدميرية تكبل السياسة الاقتصادية والمالية بقيود صندوق النقد الدولي .
3- الاستفادة من العملات الأجنبية المتراكمة في المصارف العراقية عبر آليات الاقتراض الداخلي . فبحسب ما نشرته الصحف العراقية فان رصيد مصرف الرافدين العراقي يقدر بنحو 200 مليار دولار . ويوصف بأغنى المصارف في المنطقة العربية وبذلك يمكن ان يكون بديلا مضمونا عن الاقتراض الخارجي.
4- يمكن إعادة أموال العراق المهربة من قبل اللصوص كشركات وكإفراد سراق وفاسدين. خصوصا ان بعض البلدان الأوربية أبدت استعدادها للعمل مع الحكومة العراقية لتحقيق هذا الهدف .
5- تخفيض رواتب ومخصصات الرئاسات الثلاثة وكذلك أعضاء البرلمان والدرجات الخاصة التي تكلف الميزانية العراقية سنويا مبالغ خيالية من الدنانير والعملات الصعبة .
6- الاستفادة من الأموال المتراكمة في بعض الوزارات التي لم تستطع استثمارها في خططها السنوية . وإيقاف الايفادات الحكومية والبرلمانية غير الضرورية وتقليص مخصصات الايفادات المتعلقة بالنقل الجوي والمبيت والنفقات اليومية ومدة الإيفاد في الخارج بما يوفر أموالا كثيرة للدولة .
والجدير بالإشارة لا تكمن خطورة القروض الخارجية في الفوائد المترتبة عليها وإنما في شروطها الصعبة التي يمكن ان تؤدي إلى فقدان الاستقلال الوطني للبلد المدين , مثلما حدث لمصر في فترة العشرينات من القرن الماضي . ويجب التمييز بين قروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي . فالقروض التي يقدمها البنك الدولي لتطوير البنى التحتية تتميز بأسعار فائدة اقل ولآجال أطول مقارنة بالقروض التي يقدمها صندوق النقد الدولي .
ان موافقة الحكومة العراقية على الشروط الجائرة لصندوق النقد الدولي تمثل إذعانا لإرادة صندوق النقد الدولي ولمشيئة الإدارة الأمريكية والبلدان الاحتكارية الأخرى. فالهدف النهائي لسياسة صندوق النقد الدولي في العراق تهئية كافة الظروف المناسبة لنمو وتطور الرأسمالية من خلال القيام بتنفيذ حزمة من الإجراءات التي تخدم الرأسمالية الطفيلية كالتحول نحو اقتصاد السوق وخصخصة وحدات القطاع العام الصناعية وإطلاق العنان للقطاع الطفيلي وإلغاء الرقابة على النقد الأجنبي. ويترافق ذلك مع الاستمرار في ارتفاع أسعار المواد الغذائية وفرض الرسوم والضرائب على الخدمات الصحية والتعليمية وزيادة أسعار الماء والكهرباء والنقل وماشابه ذلك من الخدمات الأخرى . وأدت هذه الإجراءات التي لم تنم عن شعور بالمسؤولية تجاه الحياة المعيشية للمواطنين الى اتساع رقعة الفقر وانتشار السرقة والجريمة وزيادة نسب البطالة و انتعاش الفساد المالي والانحرافات الاجتماعية.
وقد تم التخطيط مسبقا لتوزيع قيمة القرض المالي على مجالات استهلاكية بحته بدلا من التخطيط لاستثماره في مشروعات إنتاجية مدرة للإرباح لكي تساهم في تخصيص جزء منها لسداد خدمات القرض . ويؤدي هذا التوجه الى ايقاع العراق في الحلقة المفرغة ( قروض - مديونية - قروض جديدة لسداد القروض القديمة ) وهي السياسة المفضلة لصندوق النقد الدولي . ان إجراءات صندوق النقد الدولي الذي يلزم البلدان الفقيرة بتطبيقها بحجة الإصلاح الاقتصادي هي إجراءات غير قابلة للتطبيق . فقد ادت إصلاحات الصندوق في اليونان إلى انهيار الاقتصاد اليوناني ووقوف اليونان على حافة الإفلاس والى ارتفاع مديونيته الخارجية من 350 مليار يورو في عام 2008 الى نحو نصف تريليون يورو في عام 2016 . و طبقت إصلاحات الصندوق في أمريكا اللاتينية ومنها الأرجنتين والبرازيل وشيلي الا ان الديون الخارجية لهذة البلدان ازدادت بنسبة 38,69في المائة بين عام1960 و1983 .
ونستنتج من ذلك ان صندوق النقد الدولي يعمل كوكيل ومحام عن مصالح البلدان الاحتكارية ويعمل على تشجيع البلدان الفقيرة على الاقتراض الخارجي وهي سياسة استعمارية هدفها نهب ثروات البلدان النامية وهيكلة اقتصادياتها بما يخدم مصالح الرأسمالية الطفيلية .